إقفال فندق «لو كومودور» بعد 82 عاماً: حين يغادر شاهد الحرب بهدوء
لم يكن «لو كومودور» مجرد فندقٍ في قلب الحمراء، ولا رقماً في سجلّ الضيافة البيروتية. كان مساحةً بين الحياة والموت، بين الخبر والرصاصة، بين غرفة نومٍ دافئة وشارعٍ يشتعل بالحرب. واليوم، بعد اثنين وثمانين عاماً، يستعد هذا المكان لإطفاء أنواره نهائياً، لا تحت وقع القذائف كما في الأمس، بل بصمتٍ اقتصاديّ أثقل من الضجيج.
في قلب بيروت، عند تقاطع الحمراء، وقف «لو كومودور» شاهداً على الحرب الأهلية اللبنانية (1975–1990) وما تلاها. هنا، لم تكن الغرف للنوم فقط، بل للتحرير والكتابة، لإرسال الأخبار عبر أجهزة التيليكس، ولانتظار مكالمة قد تغيّر مسار رواية العالم عمّا يحدث في لبنان.
من هذا الفندق، نقل صحافيون أجانب صورة بيروت إلى العالم. روبرت فيسك قالها بوضوح: «لو لم يكن الكومودور موجوداً، لما استطاع العالم متابعة الاجتياح الإسرائيلي بشكل جيّد». أما جوناثان ديمبلبي، فاختصر المفارقة: «كنت آمناً نسبياً في الداخل… ثم أخرج إلى حرب حقيقية في الشارع».
خلال الحرب، دُمّرت فنادق بيروت أو تحوّلت إلى ساحات قتال. «الكومودور» بقي يعمل، ليس لأنه محايد، بل لأنه ضرورة. كان مقراً مؤقتاً للصحافيين والدبلوماسيين، ومركز بثّ غير معلن لأخبار الحرب. لكن هذا الدور لم يكن بلا ثمن. في منتصف الثمانينات، أصبحت بيروت فخاً مفتوحاً للإعلاميين، ووقعت حوادث خطف مأساوية، أبرزها اختطاف مراسل «الأسوشيتد برس» تيري أندرسون عام 1985 أثناء توجهه إلى الفندق. وبحلول عام 1987، أُقفل «الكومودور» مؤقتاً بعدما صار محيطه مسرحاً مباشراً للاشتباكات.
لم يكن وحده في هذه المعركة. «الهوليداي إن» تحوّل إلى هدف استراتيجي في معركة الفنادق، و«فينيسيا» دُمّر جزئياً ثم عاد بعد الحرب، فيما لعبت فنادق مثل «سان جورج» و«فاندوم – بو ريفاج» أدواراً متفاوتة بين الإقامة والرصد والمواجهة. في بيروت، لم تكن الفنادق محايدة؛ كانت جزءاً من الجبهة.
داخل «الكومودور»، مرّ عشرات الصحافيين من BBC وITV وNew York Times، ودبلوماسيون من الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا وسفارات عربية. لم تُوثّق إقامات سياسية لبنانية رسمية خلال الحرب، لكن الفندق كان مساحة تواصل غير معلنة، تمرّ عبرها الرسائل والمواقف، في زمنٍ كانت فيه الكلمة أحياناً أخطر من السلاح.
وكان وراء هذا الدور شخصيات صنعت فارقاً. يوسف نزال، مالك الفندق، وُصف بـ«عرّاب الصحافة الدولية في بيروت»، إذ وفّر خطوط الاتصال والأمان النسبي في سنوات الجنون. وفؤاد صالح، المدير التنفيذي، أدار الفندق في أصعب المراحل، وتحوّل بحكم الواقع إلى وسيط علاقات مع القوى المتحاربة، حفاظاً على استمرار هذا الشريان الإعلامي.
بعد الحرب، عاد «الكومودور» إلى الحياة. أُعيد افتتاحه في شباط 1996، وجُدّد عام 2004، واستضاف على مدى ثلاثة عقود اجتماعات سياسية وحوارات وطنية وفعاليات ثقافية وتضامنية. من لقاءات رئاسية غير رسمية إلى مهرجانات دعم للقضية الفلسطينية، بقي الفندق مساحة للنقاش، وإن تغيّرت الأزمنة.
لكن الزمن الاقتصادي كان أقسى. في 10 كانون الثاني 2026، سيُقفل «لو كومودور» نهائياً، لأسباب اقتصادية بحتة. مصادر معنية تشير إلى انخفاض حاد في عدد النزلاء وأسعار الإقامة، نتيجة سنوات من الانهيار الاقتصادي، وتراجع القدرة الشرائية، وارتفاع تكاليف التشغيل. ومع تغيّر أنماط السياحة، واتجاه الزوار نحو سلاسل دولية كبرى أو خيارات إقامة بديلة، لم يعد الفندق قادراً على المنافسة أو الاستدامة.
هكذا، لا يغيب «لو كومودور» لأنه خسر معركة، بل لأن المدينة تغيّرت، والاقتصاد خذل ذاكرته. يغلق الفندق أبوابه، لكن قصصه تبقى مفتوحة: عن صحافيين كتبوا تحت القصف، وعن مدينة كانت تُروى من غرفةٍ في الحمراء، وعن مكانٍ أدّى دوراً أكبر من اسمه.
برحيل «لو كومودور»، تخسر بيروت فندقاً… وتخسر جزءاً من ذاكرتها الحيّة.
