وبحسب إحصاءات مصدرها مصرف لبنان وعرضت في جلسات الحكومة المخصّصة لدراسة مشروع القانون، فإن الغالبية الساحقة من عدد الودائع يقع تحت سقف الـ100 ألف دولار، فيما تتركّز الكتلة الأساسية من حجم الودائع لدى شريحة أصغر عدداً وأثقل وزناً مالياً. عملياً، نحو 84% من الحسابات لا تمثل سوى نحو سدس الكتلة الإجمالية، في حين أن 16% من الحسابات تحتفظ بأكثر من أربعة أخماسها. هكذا تتضّح خلفية القانون الذي أقرّته الحكومة، والهدف منه، إذ يظهر أنها تحاول إيجاد معالجة سريعة نسبياً لشريحة واسعة عددياً، مقابل ترحيل المشكلة الفعلية إلى شريحة أضيق عددياً، ولكنها مالياً الأكثر حساسية.
ومن بين المودعين الذين تتجاوز ودائعهم سقف الـ100 ألف دولار ولا تتجاوز المليون دولار، ثمة عدد كبير من المتقاعدين من القطاع العام ومن السلك العسكري وغيرهم.
مجموع حسابات هؤلاء يبلغ 36.3 مليار دولار. وهؤلاء راكموا ودائعهم على مدى عقود من الخدمة، وغالباً ما تمثّل هذه الأموال تعويض نهاية خدمتهم الذي كانوا يعتمدون عليه لإعالتهم بعد التقاعد، في ظل نظام لا فيه تغطية صحية ولا نظام شيخوخة. لكن الأهم والأخطر على الحكومة أن هذه الفئة ليست مبعثرة أو فردية، بل هي منظمة ضمن نقابات وروابط وجمعيات قادرة على التحرك الجماعي، وهذا الأمر سيشكّل تحدياً أمام الحكومة التي تعتبر أنها تخلّصت من جزء كبير من الضغط عبر «تسكير الحساب» مع العدد الأكبر من المودعين.
غير أن كلفة 14 مليار دولار لتسديد الـ100 ألف دولار لمن لديهم حسابات فيها أقل من 100 ألف دولار، ليست تفصيلاً بسيطاً. فهذا الرقم وحده يوازي، بل يتجاوز، حجم السيولة بالعملات الأجنبية المعلنة لدى مصرف لبنان. أي إن «ضمان» الودائع الصغيرة، الذي يُقدَّم سياسياً على أنه خطوة اجتماعية بديهية، يتطلّب سيولة بالدولار تفوق ما يملكه النظام النقدي فعلياً والبالغ حالياً 12 مليار دولار. فمن أين ستأتي هذه الدولارات، وبأي كلفة على الاقتصاد وعلى ما تبقى من أصول عامة، علماً أن المبلغ المطلوب تسديده في أول أربع سنوات قد يتجاوز الـ18 مليار دولار؟
من الواضح في الفجوة أن الأصول العامة ستتحمّل جزءاً ليس هيّناً من هذه الكلفة وهو ما يُحمّل الدولة عبئاً كبيراً، ويُسهم في محدودية قدرتها على القيام بدور في الاقتصاد بسبب تخصيص إيراداتها لهدف تسديد الودائع.
القانون يحاول الإجابة عبر تقسيم الودائع إلى شرائح زمنية وأدوات مختلفة. فالودائع التي لا تُجاوز المئة ألف دولار يُفترض تسديدها خلال مهلة قصيرة نسبياً، أي 4 سنوات، فيما تُعاد هيكلة ما تبقى من الودائع عبر آجال طويلة وأدوات مرتبطة بالأصول. ظاهرياً، يبدو هذا الترتيب منطقياً، لناحية حماية «الصغار» أولاً، وتأجيل «الكبار». لكن الواقع أكثر تعقيداً، لأن شريحة من هؤلاء «الكبار» ليست بالضرورة من كبار الرساميل أو أصحاب النفوذ المالي التقليدي.
فبينما قد تمرّ إعادة هيكلة ودائع كبار رجال الأعمال أو أصحاب الرساميل الكبيرة بهدوء نسبي، فإن المساس بودائع متقاعدين عسكريين وموظفين عموميين يفتح الباب أمام اعتراض منظّم وفعّال. هذه فئات تمتلك خبرة في الضغط، وشبكات تمثيل، وقدرة على تحويل اعتراضها إلى أزمة سياسية للحكومة. وعند هذه النقطة، يصبح الفصل النظري بين «صغار مودعين محميين» و«كبار مودعين مؤجَّلين» فصلاً هشّاً.
عملياً، الحكومة أمام اختبار لقدرتها على تأمين سيولة حقيقية لتنفيذ وعودها، وقدرتها في الوقت نفسه على إدارة تحديات اجتماعية ــ سياسية مع فئات منظَّمة ترى في القانون انتقاصاً من حقوقها.
