الحِياد… السَّبيلُ إلى استِعادةِ الهُويَّةِ اللُّبنانيَّة



د. ليون سيوفي – باحثٌ وكاتبٌ سياسيّ

إلى جميعِ السِّياسيِّين في لبنان، هذه كلمتي إليكم: أنصِتوا إليها جيّدًا، فلستم بمنأى عن المسؤوليّة عمّا وصل إليه الوطن من انهيارٍ وذُلٍّ وضياع. أنتم من تلاعب بمصير هذا الشعب، ومن جعلَ لبنان رهينةَ الصفقات والمساومات والمحاور. أنتم من فرَّط بالسيادة، ووزّع الولاءات شرقًا وغربًا، حتى صار الوطنُ حقلَ تجاربٍ لمشاريع الآخرين.

إنّ ما أطرحه اليوم ليس مجرّد رأي، بل صرخةُ حقٍّ في وجه منظومةٍ أرهقت البلاد. إنّه طريق الخلاص الوحيد لمن تبقّى من وطنيّين لا يزالون يؤمنون بأنّ لبنانَ يستحقّ الحياة.

يَتساءلُ كثيرون عمَّا أَقصِدُهُ عندما أَتحدَّثُ عن “الحِياد”. والجوابُ واضحٌ كالشمس: هو دعوةٌ لتحرير لبنان من قيود الخارج، ومن صراعاتٍ لا ناقةَ لنا فيها ولا جمل. لقد جعلتم من لبنان ساحةَ حربٍ بالوكالة، حتى ضاعت هُويّتُه، وتحوّل المواطنُ فيه إلى لاجئٍ في وطنه.

الحلّ، وبكلّ وضوح، قرارٌ سياديٌّ جريءٌ تُقدِم عليه الدولة اللبنانية بإعلان حِياد لبنان عن جميع الصراعات، الإقليميّة والدّولية على حدٍّ سواء. فحين يصبح لبنان حياديّاً، يسقط كلّ مبرّرٍ للاقتتال والانقسام، ويُبنى الاستقرار على أساس الاحترام المتبادل لا على التبعيّة والارتهان.

الحِيادُ الحقيقيُّ يعني أن لا تبعيّة لأمريكا، ولا لإيران، ولا لفرنسا، ولا لإسرائيل، ولا للصين، ولا لأيّ دولةٍ عربيّةٍ أو حتى للفاتيكان وروسيا. لقد كفى أن نكون أوراقًا في أيدي الآخرين! كفى أن نُدار من الخارج، بينما الداخل يختنق. آن الأوان لاستعادة القرار الوطني الحرّ، وبناء دولةٍ يعلو فيها فقط صوت المصلحة اللبنانية العليا.

وفي ظلّ الحياد، يُعاد للدولة دورها الحقيقي. فالمجموعات المدنيّة لا تكون أدواتٍ لمشاريعٍ خارجية، بل شريكةً في إعادة بناء الاقتصاد والتعليم والصحّة والسياحة، ضمن رعاية الدولة لا خارجها. فكلّ مشروعٍ اقتصاديٍّ أو إنسانيٍّ أو تجاريٍّ بين لبنان وأيّ دولةٍ في العالم يجب أن يتمّ بموافقة الدولة اللبنانية وتحت إشرافها الكامل، وإلّا فستبقى الفوضى عنوان المرحلة.

عندما يصبح لبنانُ حياديًّا، ستسلمُ المقاومةُ سلاحَها وأيَّ منظومةٍ أخرى طوعًا، حين يصبح هناك إطارٌ دوليٌّ وإقليميٌّ واضحٌ يُثبِتُ احترامَ حدودِنا وسيادتِنا، ويكفلُ عدمَ احتلالِنا أو التدخّل في شؤونِنا الداخلية. هذا اليقين السياسي ـ الأمنيّ هو الضمان الذي سيزيل الذرائع ويُعيد الثقة بأن السلاح لم يعد وسيلةً للحماية الفردية أو الولاء الخارجي، بل أن الدولة وحدها هي الضامن لكرامة اللبنانيين وأمنهم.

هذا الحِيادُ لا يَعني العزلةَ، بل يَعني الانفتاحَ المُنظَّمَ والمتوازِن. يمكنُ تبادلُ الخبراتِ مع الأطبّاءِ والمُهندسينَ والعلماءِ في مُختلفِ الدُّوَل، ولكن ضمنَ إطارٍ يَحفَظُ سيادةَ لبنانَ وكرامَتَه. فاللبنانيّون، حينَ يَعمَلونَ ضمنَ مصلحةِ وطنهم، يكونونَ جميعًا في صفٍّ واحد، بعيدًا عن الاصطفافاتِ والوَلاءات.

إعلانُ لبنان دولةً حِياديَّةً ليس شِعارًا بل مشروعُ نَجاةٍ وحقٍّ وطنيٍّ. إنَّه السَّبيلُ الوحيدُ لأن يَعيشَ اللُّبنانيّونَ بسَلامٍ، وأن يَستعيدَ لبنانُ دَورَهُ الحضاريَّ والإنسانيَّ، وهُويَّتَهُ التي كادت تَضيعُ بينَ تَناقُضاتِ الآخَرين.

وليعلم الجميع: إنّ الحيادَ ليس هروبًا من الواقع، بل هو شجاعةُ المواجهة بالعقلِ لا بالسلاح، وبالكرامةِ لا بالتبعيّة. إنّ ما أطرحهُ اليوم هو الحقُّ الذي ينبض بمصلحةِ لبنان، ومن يرفضه اليوم يكون شريكًا في مآسي الغد. هذا هو طريقُ الحقّ، وهذا هو طريقُ لبنان.