د. ليون سيوفي – باحث وكاتبٌ سياسيّ
لم يعُدِ التضخّمُ الماليّ في لبنان مجرّدَ رقمٍ تتناقله تقاريرُ المؤسّساتِ الدوليّة، بل صار كابوسًا يوميًّا ينهشُ حياةَ المواطنِ. الأسعارُ تتضاعفُ بشكلٍ جنونيّ، الأجورُ تذوبُ كما يذوبُ الملحُ في الماءِ، والقدرةُ الشرائيّةُ أصبحت ذكرى من الماضي.
إنّ التضخّمَ اليومَ ليس نتيجةَ أزمةٍ عابرةٍ، بل هو الوجهُ الأكثرُ قسوةً لانهيارٍ ماليٍّ ـ نقديٍّ عمرُه عقودٌ، غذّته سياساتٌ عشوائيّةٌ وفسادٌ مزمنٌ، وتركته الحكوماتُ المتعاقبةُ يتفاقمُ حتّى بلغَ مستوى الانفجارِ. ومن يتأمّلِ المشهدَ يرى بوضوحٍ أنّ المواطنَ هو الحلقةُ الأضعفُ، يدفعُ وحدَهُ الثمنَ فيما تستمرُّ المنظومةُ في تقاسمِ الأرباحِ وحمايةِ مصالحِها.
أينَ وزارةُ الاقتصادِ؟ أينَ هي الحكومةُ من كلِّ هذا الانهيارِ؟
إنّ الغيابَ المُريبَ للإصلاحاتِ الجدّيّةِ يوحي وكأنّ السلطةَ تسيرُ بسياسةِ تجويعٍ ممنهَجةٍ لفرضِ الرضوخِ على اللبنانيّين، وكأنّهم يريدونَ شعبًا منهكًا عاجزًا عن الاعتراضِ أو المطالبةِ بحقوقِه.
لكنّ الوطنَ لا يُبنى على التجويعِ، بل على العدالةِ الاقتصاديّةِ والاجتماعيّةِ.
إنقاذُ لبنانَ لم يعُد ترفًا، بل هو مسألةٌ وجوديّةٌ. ولهذا فإنّ أيَّ حكومةٍ مسؤولةٍ، إذا كانت ما زالت تتحمّلُ لقبَ “حكومةٍ”، عليها أن تشرعَ فورًا بخطةٍ عاجلةٍ تقومُ على ثلاثِ دوائرَ مترابطةٍ…
منها الإجراءاتُ العاجلةُ (قصيرةُ الأمدِ): بإطلاقِ برنامجِ دعمٍ غذائيٍّ ودوائيٍّ موجّهٍ مباشرةً للفئاتِ الأكثرِ ضعفًا عبرَ بطاقاتٍ رقميّةٍ شفّافةٍ. وقفُ فوضى الأسعارِ عبرَ رقابةٍ فعليّةٍ، ونشرُ تسعيرةٍ يوميّةٍ رسميّةٍ، ومحاسبةُ المحتكرينَ بقراراتٍ قضائيّةٍ فوريّةٍ، حمايةُ القدرةِ الشرائيّةِ للعاملينَ في القطاعَيْنِ العامِّ والخاصِّ عبرَ تصحيحٍ مؤقّتٍ للأجورِ مرتبطٍ بمؤشّرِ الأسعارِ.
وإجراءاتٌ متوسّطةُ الأمدِ: بتوحيدِ سعرِ الصرفِ تدريجيًّا بدلَ تركِ المواطنينَ رهينةَ الأسواقِ السوداءِ، تدقيقٌ ماليٌّ شفّافٌ وعلنيٌّ في حساباتِ مصرفِ لبنانَ والمصارفِ، ليعرفَ الشعبُ من نهبَ أموالَه، إصلاحُ النظامِ الضريبيِّ باتّجاهِ تصاعديّةٍ عادلةٍ، تكبحُ تهرّبَ الأثرياءِ وتخفّفُ العبءَ عن الطبقاتِ الوسطى والفقيرةِ، إعادةُ هيكلةِ القطاعِ المصرفيِّ بضوابطَ تحمي صغارَ المودعينَ أوّلًا.
وآخرُها إجراءاتٌ استراتيجيّةٌ (طويلةُ الأمدِ): بوضعِ خطّةِ طاقةٍ مستدامةٍ تحرّرُ الاقتصادَ من عبءِ الكهرباءِ والمحروقاتِ المستنزِفةِ، إعادةُ بناءِ الثقةِ مع المجتمعِ الدوليِّ عبرَ إصلاحاتٍ حقيقيّةٍ وليس عبرَ شعاراتٍ كاذبةٍ، وتشجيعُ الاستثمارِ المنتجِ (زراعةٍ، صناعةٍ، تكنولوجيا) بدلَ الاقتصادِ الريعيِّ الذي دمّرَ لبنانَ، وتعزيزُ استقلاليّةِ القضاءِ ليكونَ مظلّةَ حمايةٍ لأيِّ إصلاحٍ.
يا أصحابَ القرارِ، أنتم اليومَ أمامَ خيارَيْنِ…
إمّا الاستمرارُ في سياسةِ الإنكارِ حتّى ينهارَ ما تبقّى من لبنانَ، وإمّا الانحيازُ بصدقٍ إلى الشعبِ عبرَ خطواتٍ جذريّةٍ تُعيدُ للدولةِ هيبتَها وللاقتصاد توازنَه.
إنّ التاريخَ لن يرحمَ، والشعب لن يُسامحَ.