الدكتور جيلبير المجبر
تحية من الأعماق، من قلوب مليئة بالأمل والخوف، من أرواح تتألم يومًا بعد يوم، ومن عيون تذرف الدموع التي لا تنتهي، ولكنها لا تفقد الأمل.
اليوم نكتب لكم هذه الرسالة، ليس فقط باعتبارنا لبنانيين في الوطن أو خارجه، بل كأبناء أرضٍ ولدتنا، وأرضٍ نحبها أكثر من أي شيء في هذا العالم. لكن مع الأسف، أصبحت هذه الأرض، التي لطالما كانت ملاذنا وأماننا، تتألم كما نحن نؤلم، تئن كما نحن نئن، وتنتظر الإصلاح كما ننتظر. تلك الأرض التي كانت تحتضننا بكل حب، أصبحت اليوم مكانًا للألم، مكانًا نحلم بالعودة إليه ولكننا لا نجد الطريق إليه إلا من خلال الدموع.
في الغربة، لا نحس أننا بعيدون فقط عن أراضينا، بل نشعر وكأننا ابتعدنا عن وطننا بأكمله. وطنٌ كان يفتح لنا أبوابه، يهبنا الفرصة للعيش بكرامة، يسعى لبناؤنا إلى التقدم والتطور معًا. الآن، نعيش في عالم بعيد عن واقعنا. ونحن الذين تركنا وطننا قسرًا أو طواعية، لم نكن نعلم أن ذلك سيكون بداية الوجع، البداية التي لا تنتهي.
الغربة ليست فقط مكانًا جغرافيًا، الغربة هي عندما تشعر أنك غريب في وطنك. الغربة هي عندما ترى وطنك يبتعد عنك في كل خطوة، وتسمع عن انهياره وفساده أكثر من سماع أخبار الفرح والأمل. ولكن الغربة الأكثر قسوة هي عندما ترى الأطفال الذين ولدوا في الخارج، يطرحون أسئلة عن وطنك الذي أصبح في طي النسيان، عن أراضيك التي أصبحت أحلامًا غير قابلة للتحقق. نريد لهم أن يعيشوا في لبنان كما عشنا فيه، أن يشهدوا على تقدم هذا الوطن، على ازدهاره، على تاريخه وحضارته التي لا تموت.
لكن رغم كل هذا، نحن لا نزال نؤمن أن الأمل لم يذهب. لا زلنا نؤمن أن لبنان سيعود كما كان، أن لبنان يمكنه أن يزدهر من جديد. نحن الذين تركناه خلفنا، لا زلنا نعلق قلوبنا وآمالنا علىكم، على قدرتكم على النهوض بهذا الوطن. نعلم أن ما نحتاجه اليوم هو الإرادة الصادقة، العزم على اتخاذ القرارات الجريئة التي تعيد لهذا الوطن رونقه، تعيد له مكانته التي طالما كان يتمتع بها في العالم.
نعم، نحتاج إلى أفعال لا إلى وعود، نحتاج إلى إصلاحات حقيقية تضمن للبنانيين حقوقهم، تضمن لهم العدالة والفرص المتساوية، تضمن لهم الحياة بكرامة. نريد لبنان الذي يشعر فيه كل مواطن أنه جزء من وطنه، الذي لا يذوق فيه المواطن طعم القهر بسبب الفقر أو البطالة أو سوء الأوضاع الاقتصادية. نريد لبنان الذي لا تتزعزع فيه السيادة، الذي لا يهزمه الفساد أو المحاصصة الطائفية التي أضرت بسمعته.
نريد لبنان الذي يمكن لأولادنا أن يعودوا إليه بكل فخر واعتزاز، لا أن يعيشوا فيه كغرباء. نريد لبنان الذي يعزز من كرامة المواطن، ويجعله يشعر أنه جزء من هذا المجتمع الذي يساهم في تقدمه وإعمار أرضه. نريد أن نعيد للبنان مجده، أن نعيد له دوره كمركز حضاري يبرز في قلب الشرق الأوسط. لن نقبل بغير ذلك، ولن نرضى أن نرى هذا البلد الجميل يصبح مجرد ذكرى في ذاكرة أبنائه.
نحن لا نريد العودة إلى لبنان كما كان، بل نريد أن نعود إلى لبنان أفضل، إلى لبنان مزدهر، لبنان يعود إلى مكانته الريادية في العالم العربي والعالمي. لبنان الذي يشعر فيه كل لبناني أنه حقق طموحاته، لبنان الذي يحتضن أبنائه جميعًا، من الداخل والخارج، ويبني لهم المستقبل. نحن لا نريد العودة إلى لبنان غارق في الفساد أو محكوم بالمصالح الضيقة، بل نريد العودة إلى لبنان الذي يعرف كيف يواجه تحدياته، لبنان الذي يتسم بالعدل، بالحرية، وبالكرامة.
نريد لبنان الذي لا يُشعر فيه أحد بالغربة. نريد لبنان الذي يجعلنا نعود إليه ونمشي فيه وكأننا لم نغادره أبدًا. لبنان الذي يوفر فرص العمل للشباب، الذي يعزز من قدرات الأفراد ويقدم لهم التعليم والفرص ليعيشوا حياة كريمة. نحن نريد أن نرى هذا لبنان، نريد أن نراه ونحن على قيد الحياة، نريد أن نعود إليه ونحن نشعر أن حلمنا أصبح حقيقة.
أما بالنسبة لأبنائنا الذين ولدوا في الخارج، فهم لا يعرفون لبنان إلا من خلال قصصنا، لكننا نريدهم أن يعيشوا هذا الوطن، أن يمشوا في شوارعه، أن يلمسوا ترابه بأيدهم، وأن يعبروا عن فخرهم بلبنان كما نعبّر نحن عنه. لا نريد أن يظلوا يقتصرون على الحكايات التي نرويها لهم عن لبنان، بل نريدهم أن يختبروا لبنان بأنفسهم، أن يشعروا بالفخر في هذا الوطن الذي ننتمي إليه.
إذا لم نعمل على إصلاح بلدنا الآن، فماذا سنترك لأولادنا؟ إذا لم نبدأ في بناء لبنان اليوم، فكيف سنترك لهم إرثًا نباهي به في المستقبل؟ لبنان الذي نريده ليس فقط لنا، بل لأولادنا وأحفادنا. نحن نريدهم أن يعيشوا في لبنان الذي يزهر أمام أعينهم، لبنان الذي يمكنهم أن يفخروا به ويشعروا أنه وطنهم دون أي شك أو تردد.
اليوم، نضع ثقتنا في أيديكم، ونحن نعلم أنكم قادرون على إصلاح هذا الوطن. ولكن الإصلاح لا يأتي بالكلام، بل يأتي بالفعل، وبالإرادة القوية. نحن نعلم أن لبنان في حاجة إلى رجال دولة شرفاء، رجال يعرفون كيف يضعون مصلحة الوطن فوق أي اعتبار. نعلم أنكم قادرون على اتخاذ القرارات المصيرية التي من شأنها أن تضع لبنان على المسار الصحيح، ولكن الوقت يمر، ولا يمكننا أن ننتظر إلى ما لا نهاية. الوقت حاسم، واللبنانيون في الوطن والخارج ما زالوا يؤمنون أن التغيير ممكن، لكننا نحتاج إلى أفعال تؤكد هذه الثقة.
نحن نريد العودة، لكننا نريد أن نعود إلى لبنان الذي يستحقنا، لبنان الذي يعيد الأمل إلى قلوبنا، لبنان الذي يعيدنا إلى أحضان أرضنا، ويستقبلنا بكل فخر، لبنان الذي يفتح لنا أبواب المستقبل ونحن نعلم أن هذه الأبواب ستكون مليئة بالأمل والفرص.
مع فائق الاحترام والتقدير،