النهار
مبروك للرئيس الجديد جوزف عون توليه رئاسة الجمهورية اللبنانية، ومبروك للبنان خروجه من الشغور المتكرر الذي استمر هذه المرة نحو سنتين وشهرين. وإذا كنا نأمل خيراً وفيراً، وأملاً بمستقبل أفضل، ينطلق من تحريك عجلة المؤسسات الحكومية وتأليف حكومة جديدة تتوثب للمرحلة المقبلة، الحاشدة بالتطورات الإقليمية وانعكاساتها اللبنانية، فإن قراءة واقعية تجعل أي مراقب لمسار العملية الانتخابية وما سبقها، وما سيليها، يتوقف عند الآتي:
إن فشل الطبقة السياسية اللبنانية في الاتفاق على رئيس منذ شغور موقع الرئاسة في 31 تشرين الأول (أكتوبر) 2022، يؤكد قصور التجربة الديموقراطية اللبنانية في تخطي الأزمات، وخصوصاً بعد اتفاق الطائف، إذ تكررت أزمة الشغور الرئاسي، الأمر الذي بات يحتاج إلى تعديل دستوري ربما، يجب ألا يتحول تهديداً للعيش المشترك، أو لحالة المساكنة القائمة. والتعديل لا يهدف إلى استعادة الموارنة امتيازات افتقدوها، بل إلى إعادة تنظيم عجلة المؤسسات، وحفظ هيبة رئاسة الدولة.
- إن تاريخ لبنان مع القناصل والسفراء والموفدين والمؤتمرات الخارجية تؤكد أنه بلد غير قادر على حكم نفسه بنفسه، ولا يزال عرضة لكل أنواع التدخلات الخارجية، بل إنه رهينة هذا الخارج في حروبه وسلامه، وأيضا في استحقاقاته الداخلية من انتخاب رئيس إلى تعيين قائد للجيش، وصولا إلى مدير عام. وإذا كانت مرحلة الوصاية السورية قد انتهت، ربما إلى غير رجعة، فإن استجرار الخارج، العربي والأجنبي، يوحي بأن لبنان اعتاد الوصاية ولو بتسميات مختلفة. وهو اليوم يتحرك بتنسيق مع اللجنة الخماسية، وسفراء الدول ومبعوثيها، بل بما يشبه التعليمات والأوامر والمغريات والتهديد بالعقوبات.
- إن عبارات السيادة والحرية والاستقلال باتت ممجوجة لأن في لبنان أكثر من 50 بلدة محتلة، واحتلالا سوريا مقنّعا، ووصايات عدة، ورؤساء ونوابا يشترطون تارة الحوار، وتارة بيانات وإعلانات واضحة، وطوراً التعديل الدستوري الصريح والعلني، وكلها تسقط على أبواب الضغوط الخارجية، وربما التمويل الخارجي.
- إن معارضة واسعة لقائد الجيش ثم القبول به والتهليل له، تنطبق تماماً على وصف اللبنانيين بأنهم "مع الواقف"، وأن "مين تجوّز أمي صار عمي"، وتذكّر أيضا بقول منقول عن معاوية مؤسس الدولة الأموية وقد أوصى نجله بالآتي: "أما أهل الشام فاحذرهم لأنهم يتلوّنون بلون الإناء الذي يوضعون فيه".
- إن اللجوء عند كل استعصاء إلى القادة العسكريين يؤكد عدم النضج السياسي، وهو إقرار من السياسيين بعجزهم عن إنتاج طبقة كفوءة وقادرة، وعن فرز أسماء كثيرة يحار المرء في اختيار الاسم الأفضل منها. إن سواد "العسكريتاريا" ليس من خصائص لبنان، ولا يشبه الواقع، إذ في حين تساقط العسكر في معظم الدول العربية يستعيد لبنان هذا "التقليد".
- إن التلاعب بالدستور، وتعديل مواده مرة بعد أخرى من دون أسباب قاهرة، يجعلان من الدستور ألعوبة، خصوصاً متى تكررت عمليات الانتخاب غير الدستوري، وتمديد المهل والولايات، من دون قدرة للنواب المعترضين على التأثير، وتحكّم رئيس المجلس في تحديد المسار الدستوري على هواه.
- إن ملء موقع رئاسة الجمهورية لا يعني حكماً دخول البلاد في مرحلة ابتكار الحلول والمضي بها، لأن الطبقة السياسية الحالية لم تتبدل في عقليتها وأدائها ومقاصدها ومحاصصاتها وولاءاتها. بل إن الكتل ربطت تأييدها لترشح العماد عون ببازار مطلبي، ومحاولة الوصول إلى تسويات، تأخر معها الحل بعد اعتكاف عون عن لقاء رؤساء الكتل والاحزاب وعقد الصفقات معهم.
- إن انتخاب العماد جوزف عون رئيساً ربما يبعث على القلق، لأسباب عدة أولها عدم وجود معرفة عميقة بالشخص وميوله وأفكاره وتطلعاته، (وإن كان خطاب القسم يرضي كل مواطن وكل وطني، وهو خطاب تقدمي واعد) إذ إن البيانات التي تصدر عن مكتبه لا تعبّر عنه بقدر ما هي موقف رسمي يدرس بعناية. والسبب الثاني أن الشخصيات الملتزمة الحياة العسكرية غالباً ما تفتقد المرونة السياسية لتسيير الأمور مع طبقة حاكمة ومتجذرة في الحكم والفساد والصفقات. والسبب الثالث هو أن عدم الموافقة الضمنية على رئاسته، يمكن أن يتسبب له بعراقيل لاحقة، والتجارب السابقة كثيرة في هذا الشأن، خصوصاً أن صلاحيات الرئيس مقيّدة إلى حد كبير.
- إن رعاية المجتمع الدولي لانتخاب عون كبوابة إلى التغيير، لا تكتمل إلا متى تآلفت حكومة إصلاحية، وتآلفت المنظمات الدولية على إنجاح حلول له في المجالات المالية والاقتصادية، وكذلك الأمنية، وتثبيت حدوده مع إسرائيل، وضبط حدوده مع سوريا، وضمان حقوقه. ومعروف عن المجتمع الدولي قصر متابعته لانشغاله بشبكة واسعة من المصالح المتبدلة. والكل يتذكر كيف باع هذا المجتمع لبنان لسوريا عام 1990.
- وأخيراً، فإن نجاح الرئيس بالمدى الأقصى الممكن، يتوقف عليه شخصياً، والاختبار الأول في فريق عمله ومستشاريه ومختاريه، والثاني في طي صفحة الماضي مع خصومه، فلا تتحول الولاية لتصفية الحسابات، والثالث والأهم يكمن في عدم تمسكه بمواقع وحصص تجعله ضعيفاً في مواجهة الآخرين.
أكرر أن خطاب القسم تقدمي وجريء ويزرع الأمل ويحرك في كل اللبنانيين العزيمة، وتبقى العبرة في التنفيذ، أو في إمكان جعله واقعاً مَعيشاً