قد يجد البعض في الحديث عن ضرورة تحول لبنان الى استخدام الطاقة النظيفة والمتجددة لزوم ما لا يلزم، في وقتٍ تعجز فيه الحكومة عن تأمين امدادات منتظمة من شحنات الفيول الضرورية لتشغيل المعامل الحرارية. إلا أن العجز المالي الحالي والارباك الاداري لا يُبرر عدم استعداد الحكومة للتحول التدريجي الى الطاقة المتجددة. فمعالجة ازمة الكهرباء يستوجب دراسة خيارات استخدام مصادر الطاقة النظيفة والمتجددة المناسبة لتلبية حاجة الاستهلاك المحلي من الكهرباء.
وعلى الرغم من الجهود التي بُذلت لإقامة معامل انتاج حرارية جديدة وإعادة تأهيل شبكات التوزيع، في خضم مرحلة إعادة الاعمار خلال العقد الأخير من القرن العشرين، إلا أن هذه الجهود لم تنجح في تلبية حاجة اللبنانيين المتزايدة من الكهرباء. والحال عينه ينطبق على ما آلت اليه “الخطة الوطنية للنهوض المستدام بقطاع الكهرباء” التي اقرتها حكومة تصريف الاعمال في آذار من العام 2022، جراء الفشل في تأمين انتظام الإنتاج واستدامته.
في المقابل لم يُسمح للقطاع الخاص بإنتاج الطاقة الكهربائية حتى صدور القانون 48/2017 الذي يُنظم الشراكة بين القطاعين العام والخاص، فيما ظلّتَ التراخيص الممنوحة بموجب هذا القانون لإنتاج الكهرباء من الطاقة الهوائية منذ العام 2017 حبراً على ورق. بينما كانت المولدات الخاصة قد تمكنت وبقوة الامر الواقع، من انهاء احتكار مؤسسة كهرباء لبنان إنتاج الطاقة الكهربائية الذي استمر حتى مطلع تسعينيات القرن الماضي، بعد عجز الدولة اللبنانية عن مواكبة الطلب المتزايد على الكهرباء.
ويدل تزامن إعادة تأهيل قطاع الطاقة الكهربائية شبكةً ومعامل، مع الإهمال المتعمد للمعامل الكهرومائية التي زودت لبنان بـ 70% من حجم استهلاكه من الكهرباء حتى العام 1976 الي تلا الحرب الأهلية، على افتقار القيمين على قطاع الطاقة الى نظرة متكاملة لتوسيعه وتطويره. الامر الذي أدى الى توقف العدد الأكبر من هذه المعامل، وحرم لبنان من الاستفادة من الوفر الذي كان يُمكن تحقيقه في كلفة الإنتاج.
وقد تسبب الإبقاء على سعر الكيلوواط ساعة أدنى من كلفة إنتاجه، بتشجيع الإسراف في الاستهلاك وعدم اهتمام المستهلكين بإيجاد مصادر بديلة للكهرباء سوى تلك التي توفرها الدولة. الامر الذي تسبب بالحاق خسائر كبيرة ومباشرة بمؤسسة كهرباء لبنان، كان لا بد من تعويضها من خلال سلفات الخزينة للحفاظ على استمرار الإنتاج مما ساهم بالتكافل والتضامن مع الفساد المستشري في الإدارة، في تراكم الدين العام وتعاظمه.
وقد تزامن تراجع حاجة لبنان من الكهرباء الى 1700 ميغاواط ساعة مع تفاقم الأزمة المالية والاقتصادية، بعد أن كانت قُرابة الـ 3200 ميغاواط بحسب تقديرات مؤسسة كهرباء لبنان في نهاية العام 2019. ومرد هذا التراجع لجوء اللبنانيين الى تقليص استهلاكهم من ناحية، وتزايد اهتمامهم أفراداً ومؤسسات، في التحول الى الطاقة النظيفة والمتجددة لا سيما منها أنظمة الطاقة الشمسية حيث بلغ مجموع قدرتها الـ 1500 ميغاواط حتى نهاية شهر حزيران الماضي من ناحيةٍ ثانية.
وبينما كان يُعول على “قانون الطاقة المتجددة الموزعة” ذات الرقم 318/2023 لتشجيع الاستثمار في الطاقة المتجددة، سرعان ما تكشفت عقبات قانونية تحول دون تنفيذه لجهة عدم تشكيل الهيئة الناظمة لقطاع الكهرباء التي نص عليها قانون تنظيم قطاع الكهرباء 462/2002. ذلك أنه يعود لهذه الهيئة حصراً حق منح التراخيص، ما حال أيضاً في توقف عرض كل من شركة TotalEnergies وQatarEnergy بناء محطة إنتاج كهرباء من الطاقة الشمسية بقوة 100 ميغاواط.
وكان من الملفت ألا يلقى العرض القطري بإقامة ثلاث محطات طاقة شمسية التجاوب المطلوب من الحكومة، في الوقت الذي يعجز فيه لبنان عن تلبية احتياجاته من الطاقة وغيرها. ولم يكتفِ القيمون على قطاع الطاقة برفض العرض الاول الذي خُفض فيما بعد ليقتصر على محطة واحدة بقدرة 100 ميغاواط لاقت نفس مصير العرض الذي سبقها. إن عدم التجاوب مع العرض القطري إن دلَّ على شيء إنما يدل على أن المشكلة تكمن في الذهنية التي تُدير قطاع الطاقة في لبنان وليس في عدم توافر الموارد اللازمة او شح التمويل.
في المقابل، تزيد الهبة الصينية الخاصة بتزويد هيئة أوجيرو بأنظمة طاقة شمسية لتزويد سنترالات الهيئة بالكهرباء وتقليل الاعتماد على المولدات، التي من المقرر أن يتم تسلُمَها قبل بداية أيلول القادم، الآمال بحصول لبنان على هبات مماثلة لبناء محطات طاقة شمسية.
وجدير بالذكر أن تعهد لبنان زيادة استخدام الطاقة النظيفة والمتجددة إلى 30% بحلول العام 2030، كان مشروطاً بحصوله على دعم دولي لتحقيق نصف هذه الزيادة. ولو أن الحكومة اللبنانية وفت بتعهداتها لكان حصل لبنان على أنظمة طاقة متجددة قبل انفجار أزمته المالية والاقتصادية، لا بل ربما كان بالإمكان الحؤول دون حصولها. إلا أن استمرار التعاطي مع الازمات المتفاقمة ولا سيما منها أزمة الكهرباء بنفس الأساليب السابقة، يجعل الامل بالحلول في المدى المنظور أقرب الى الحلم منه الى الحقيقة.
أما مصادر الطاقة المتجددة التي يُمكن للبنان الاستفادة منها فلا تقتصر على الطاقة الشمسية، بل تشمل معالجة النفايات التي يُنتج منها لبنان ما لا يقل عن ١٫٣٨١ مليون طن سنوياً، وهي تمثل مواد أولية غير مستغلة ومصدراً للوقود المتجدد. في الوقت الذي يُصار فيه الى دفن هذه النفايات في مطامر ما عادت تتسع للمزيد منها مع ما يُشكله الطمر من مخاطر على البيئة والسلامة العامة. فيما يزيد الامتناع عن معالجة هذه النفايات والاستفادة منها بتوليد الكهرباء من الأعباء المالية والدين العام ويسمح باستمرار المجزرة البيئية وتداعياتها الصحية.
في المقابل، فقد أنتجت محطات تحويل النفايات إلى طاقة في أوروبا خلال العام 2018 قُرابة الـ 40 مليار كيلوواط ساعة من الكهرباء و90 مليار كيلوواط ساعة من الحرارة، وهي زودت 18 مليون شخص بالكهرباء وامنت الدفء لـ 15.2 مليوناً آخرين. في الوقت الذي يُهدد كل من مطمر طرابلس ومطمر برج حمود والكوستا برافا وغيرهم بكارثة بيئية، فيما تنعدم المساعي لمعالجتها والاستفادة من انبعاثات هذه المطامر بتوفيرها الطاقة الكهربائية للمناطق المحيطة بها على غرار مولدات مطمر الناعمة، الامر الذي يُساهم في تخفيض فاتورة الفيول التي تعجز الحكومة عن تسديدها.
وقبل معالجة النفايات بهدف انتاج الكهرباء، كان على الحكومة ان تُعيد تأهيل المعامل الكهرومائية المتوقفة عن الإنتاج، حيث تبقى الصيانة ادنى كلفةً من إقامة محطات جديدة. وبتعبير آخر، إذا كان لا بد من خطط لمعالجة “الازمة المستدامة” في انتاج الطاقة الكهربائية، فما من حل من دون اعتماد الطاقة النظيفة والمتجددة كمصدر أساسي للطاقة الكهربائية الى جانب المصادر الحالية. مع العلم أن تكلفة انتاج الكهرباء من الطاقة المتجددة تبلغ في المتوسط نحو %40 أقل من الطاقة المنتجة بواسطة الوقود الأحفوري.
وبعدما تجددت أزمة إنتاج الكهرباء خلال أقل من شهر، وفي ظل الخطط العشوائية التي يُعاني منها قطاع الطاقة الكهربائية لا بد من تغيير الذهنية التي يُدار بها هذا القطاع، لا بل ربما من الاجدى تغيير القيمين عليه. ولا بد من الاخذ في الاعتبار التوجهات العالمية والتطورات التقنية التي طرأت على هذا القطاع فيما تتلهى الاطراف السياسية بصراعاتها في ظل استمرار الشغور الرئاسي وتمادي العدوان الإسرائيلي من ناحية، وعرقلة الفساد الإداري والسياسي للحلول من ناحية ثانية.