يتّجه مستشفى رفيق الحريري الحكومي الجامعي، نحو مزيد من الخراب وسط تحجيم دوره الاستشفائي المهمّ الذي لعِبَه طيلة سنوات، ونافَسَ به بعض المستشفيات الخاصة. والخراب لا يُسَجَّل دائماً كنتيجة لعدم توفُّر الاعتمادات المالية المطلوبة لضمان استمرارية الخدمات أو تطويرها، بل في أحيان كثيرة يكون العائق إدارياً. فعدم انتظام العمل الإداري بما يضمن حُسن تدبير شؤون المستشفى، ينعكس سلباً على الأداء، حتّى لو توفَّرَت الأموال لتغطية متطلّبات المستشفى. فكيف إذا اجتمعَ العاملان، المادي والإداري؟
التخبّط الإداري
العقبة الأساسية التي تواجهها اللجنة المكلّفة إدارة المستشفى، هي نقص التمويل. لكن الفجوة الإدارية المتمثّلة بعدم وجود مدير عام أصيل للمستشفى، وعدم قدرة وزارة الصحة على ضبط الوضع الإداري الداخلي للمستشفى، ومراقبة أداء بعض الموظّفين والمدراء.. وغير ذلك من النقاط الإدارية الجوهرية، يشكِّل ثقلاً إضافياً فوق ما يعانيه المستشفى، لأن “الأداء الإداري لبعض الموظفين واللجنة، غير مبشِّر بالخير”، وفق ما تقوله مصادر من داخل المستشفى. وتعتبر المصادر في حديث لـ”المدن”، أنه فيما مضى “كان هناك أموال كافية وضاعت ولم يتحسّن وضع المستشفى”.
التخبّط الإداري ينعكس بنظر المصادر على “علاقة المستشفى بالمورِّدين الذين يؤمِّنون المعدات والمستلزمات. فالاستنسابية التي يتم التعامل بها مع بعض المورِّدين لجهة إعطائهم مستحقاتهم المالية على حساب مورِّدين آخرين، دفع الكثير منهم إلى عدم التجاوب مع طلبات الإدارة في تأمين المعدّات، ما تركَ المستشفى في حاجة ماسّة للكثير من المعدّات والمستلزمات الضرورية. ولم ينحصر التأثير بنقص تأمين المعدّات، بل إن “الكثير من الأطبّاء تمّ التضييق عليهم حتّى غادروا المستشفى، وهذا الأمر انعكس تراجعاً في الخدمات”.
ومع أن وزير الصحّة فراس الأبيض “أجرى بعض التعديلات على اللجنة التي تدير المستشفى، وعيَّنَ أشخاصاً جدداً، إلاّ أن المشكلة بقيَت. ولذلك المطلوب هو التغيير الجذري”. وتشير المصادر إلى أن الوزير “يستطيع إجراء التغيير بشحطة قلم”.
النفقات والرواتب
تمدّدت نتائج العجز الإداري لتصل إلى “تحوُّل لجنة الإدارة إلى مجموعة قيادات مجتمعين في لجنة. كل قائد منهم يقرِّر ويتصرَّف وفق ما يراه مناسباً، لدرجة أن عضواً يقرِّر منفرداً في شؤون الموظفين، وآخر يقرّر صرف أموال هنا وأموال هناك، وثالثٌ يسعى لجذب تبرّع لصالح قسم معيَّن يعمل فيه، دون غيره من أقسام المستشفى، ليضمن استمرار عمل القسم حتى وإن توقّفت باقي الأقسام عن العمل أو تراجعَ أداؤها”. ويجتمع أعضاء اللجنة على إجراء واحد “وهو البحث في كيفية تقليص النفقات المتعلّقة برواتب وأجور الموظّفين، ليَظهَر الوفر في مالية المستشفى، ويُبَيَّن ذلك على أنه إنجاز. في حين تنعدم الإنجازات على مستوى تطوير الخدمات وتشجيع الناس على التوجّه للمستشفى أو تشجيع المتبرّعين والهيئات الدولية على العودة إلى المستشفى”.
ما يحصل على مستوى اللجنة الإدارية “لا يعني الانتقاص من قيمة أعضائها على المستوى الطبّي، وإنما يعني الانتقاد على المستوى الإداري، لأن هذه اللجنة لا تملك خطّة واضحة للوصول إلى نتيجة معيّنة بعد فترة من الزمن. ووزارة الصحة لا تبالي بهذه المشكلة الجوهرية. كما أن بعض أعضاء اللجنة بعيدين عن بيئة المستشفى وتفاصيل احتياجاتها ونوعية المرضى الذين يقصدونها”. وتوضح المصادر أن “بعض أعضاء اللجنة يعملون في مستشفيات من كبرى المستشفيات في لبنان، وهناك اختلاف كبير بين واقع تلك المستشفيات ومستشفى الحريري، وهؤلاء لا يدركون تفاصيل هذا الواقع ولا يحاولون معرفته”.
ازدياد النقص بالمعدات والخدمات
خسر المستشفى الكثير في أعقاب الأزمة الاقتصادية التي انفجرت منذ نحو 5 سنوات وتخلّي الدولة عن مسؤولياتها تجاه مؤسساتها وإداراتها العامة. ووضع الاعتداء الإسرائيلي المستمر على لبنان منذ تشرين الأول 2023، المستشفى أمام تحدٍّ خطير فيما لو توسَّعَت رقعة الاعتداءات واضطرّ المستشفى إلى استقبال مواطنين مصابين. ومع ذلك، لا خطوة إلى الأمام في هذا الاتجاه من قِبَل اللجنة.
وعليه، فإن جولة بسيطة على واقع المستشفى، يبيِّن “إلغاء بعض عقود صيانة المعدّات الطبية. شلل قسم الأشعّة بمعدّل 80 بالمئة، وكذلك لا يعمل المختبر بكامل قدرته، فيما قسم التنظير متوقّف عن العمل”. وتضيف المصادر أن “قسم العمليات فَقَدَ 90 بالمئة من قدرته ويستقبل بين عمليّتين أو 3 عمليات أسبوعياً. توقُّف معدّات فحص غازات الدمّ بشكل كامل”.
وعلى مستوى تجهيزات المستشفى أيضاً، فإن “ثلاثة مصاعد تعمل من أصل 11 مصعداً، ما يؤثِّر سلباً على نقل المرضى بين الأقسام من جهة، وعلى إخلائهم من الطوابق أو المستشفى في حال حصول أي طارىء كالحريق مثلاً. حتى أن المراحيض بلا صيانة. وهذا الواقع أفقَدَ المستشفى قدرته على تلبية احتياجات 300 مريض يومياً في جميع الاختصاصات والأقسام، وجعله يقتصر على نحو 100 مريض”.
عند كل استعادة لواقع مستشفى الحريري، يتبيَّن خراب جديد وإهمال إضافي. والمقلق أكثر، هو الصمت المطبق على مستوى وزارة الصحة والحكومة. صمتٌ يعزِّز خراب المستشفى وفقدان الشريحة الأوسع من اللبنانيين والنازحين السوريين واللاجئين الفلسطينيين وغيرهم، قدرة تلقّي العلاج اللازم كحقٍّ طبيعي من حقوق الإنسان. والخوف الأكبر هو تحويل المستشفى إلى ما يشبه المستوصف الذي بالكاد يقدّم خدمات الرعاية الأوّلية، بعد أن كان مستشفى جامعياً حكومياً يضاهي بخدماته ما تقدّمه الكثير من المستشفيات الخاصة. وفي خضمّ ما يعانيه المستشفى، سيّما الترهّل الإداري، يبقى السؤال حول جدية التغيير الجذري الذي قد يُحدِثه استبدال أعضاء لجنة إدارة المستشفى، أو حتى تعيين مجلس إدارة مع مدير عام أصيل. ونظراً لعمق الأزمة، لا يبدو أن تغييراً جذرياً قد يحصل، لكن الإصلاح مطلوب وإن جزئياً، وهو ما يُنتَظَر إنجازه في أسرع وقت، وعدم الاستناد إلى واقع البلد والدولة لتبرير إهمال المستشفى.