العريس سليمان مكلّل بالدم.. ماذا حصل في 7 تشرين وتطور في 13 تشرين؟


 


مهلاً، قبل أن يطلّ من يُجدد رمي نعوته يمنة ويسرة فليقرأ حتى النهاية: نعم شكا دفنت أعتى شبابها في حرب السنتين. نحو ثلاثمئة شابٍ قتلهم فلسطينيون كانوا يبحثون عن وطن بديل تحت شعار «طريق القدس تمرّ من جونية وما بعد بعد جونية». أطفال غزّة في ميل والخراب والقتل الفلسطيني في ميلٍ آخر مختلف تماماً. فلا أحد يتفلسف في الموضوع. شكا هذه دفنت شهداءها لكنها لم ولن تدفن الذكريات. وجاء من يستفزها من جديد بصيحاتٍ: لبيك فلسطين معتمراً الكوفيّة، مطلقاً رصاصاً من «فجّ وغميق»، مثيراً الرعب في قلوب الأطفال والكهول. نجح المستفزون وحصل 7 تشرين. لكن الدولة لم تتحرك. وحصل 13 تشرين الثاني والجاني المجرم من تلة العرب فار وابن شكا البار، عريسها الجميل الشهم، سليمان سركيس، بين الحياة والموت. شكا نحرت من جديد فهل ستعضّ على جرحها وتتابع العمر بين اللادولة ومن يستقوون على الدولة؟


ad

توجهنا البارحة الى شكا. الوجوه ذابلة، مكتئبة، حزينة. الناس في ذهول ينتظرون إشارة من القديس شربل ورفقا والحرديني. الصلوات في لحظات الوجع تقوى. بيت فارس سركيس، والد الضحية، الراقد في غيبوبة في مستشفى سيدة المعونات، لم يُفتح منذ يوم الحادثة. إنه في حيّ ماريوسف، على بعد أمتار من كنيسة القديس يوسف شفيع الأهالي. مزارات القديسين كثيرة. نزلنا الى البيت الذي تحوطه حديقة واسعة مغطاة بورق الخريف. كل شيء حزين. حتى الكلب، كلب الشاب سليمان، رابض بلا حراك. التاريخ مليء بالأحداث التي أثبتت فيها الكلاب وفاءها على خلاف بعض البشر. أهل البيت تركوه على عجل وينامون ويقومون في سيدة المعونات. ركن الباربكيو كان يضمهم على فرح فهل سيعود الفرح الى البيت. شجر سنديان وشجرة قشطة وبيت مجدد من طبقتين كان يضمّ كل أفراد عائلة فارس سركيس واليوم ليس فيه إلا الصدى. يا الله كيف تتبدل الحياة في لحظة.


سيارة سليمان أمام البيت وهي من نوع كيا فورت. ثلاث رصاصات خرقت الزجاج الأمامي. الجاني محمد علاوي أطلقها على سيارة الضحية الذي كان قد نزل منها للتوّ ليفتح محله. وحين رآه خارجها عاجله برصاصتين واحدة اخترقت الرقبة وثانية استقرت في الرأس أدخلت سليمان في غيبوبة خطيرة. ننظر الى السيارة. نتخيّل اللحظة. ننظر الى السماء ونتضرع الى الله والقديسين ليبعد الاشرار.


في بيت علاوي


نتوجه الى تلة العرب. نفوس هؤلاء في سجلات أنفه. هي تتبع عقارياً أنفه وتقع في ساحل قضاء الكورة، على مسافة 71 كيلومتراً من بيروت، وعلى مسافة 15 كيلومتراً عن طرابلس عبر القلمون. ومساحة اراضيها 613 هكتاراً. حاجزٌ وحيد للجيش اللبناني عند مدخل تلة العرب. نلقي على عناصره التحية ونتابع صعودا الى قلب التلة. لا سؤال ولا جواب. شعار الحزب السوري القومي الإجتماعي مرسوم على غير بيت في التلة. بيوت مبعثرة ومخيم في قلب التلة. ثمة سوريون يقطنون هناك منذ أعوام. نجول في الارجاء. عدد الدراجات النارية أكثر من عدد السيارات. وشباب يتنقلون من مكان الى آخر مستخدمين هذه الظاهرة، ظاهرة النقل المستجدة، في البلاد. على تلك الدراجات هجموا على شكا، شكا المقاومة أباً عن جد، وكان ما كان.


في تلة العرب عشائر. والد المعتدي محمد، عدنان علاوي، الملقب بعزيز، يجتمع مع ثلة من رجال العشائر في التلة هم ديب علاوي وديب اللهب وعارف العثمان وأبو رامي شحيتلي ومصطفى الدرويش. هم نادمون؟ سيسلمون إبنهم المجرم؟ نحو ساعة وخرج عنهم بيان مذيل بتوقيع العشائر العربية في لبنان: نحن أبناء العشائر العربية في لبنان (...) لا نقبل من اي جهة كانت ومهما علا شأنها أو تراءى لها أنها الأقوى، أن تسول لها نفسها التطاول على أبناء العشائر. نعلن وقوفنا وتضامننا مع عرب أنفه على مبدأ أنصر أخاك ظالماً او مظلوماً (...) نحن جسد واحد من وادي خالد حتى الناقورة ومن البحر حتى الفاعور».


بيان آخر صدر عن شباب عرب وادي خالد: «يجب ان تعلموا أننا لا نترك أبناء عمومتنا لوحدهم في مواجهة قطاع الطرق والمأجورين الذين يحاولون اللعب على أوتار الطائفية وإننا قادرون ومستعدون للرد المناسب في أي مكان وفي أي زمان، ونحن ننتظر إطلاق إشارة من أقاربنا «عرب التلة» وسنكون في قلب المواجهة».


هؤلاء استفزوا ورموا رصاصاتهم وينذرون! فهل سيسكت أولاد شكا عن فعلة (وأفعال) هؤلاء؟ نجول في شكا وأنفه. جارتان تعانيان اليوم من نفس الوجع. الكل يعرف العريس سليمان «هو من خيرة الشباب. تزوج في 15 أيلول الماضي. هو عريسٌ كتب لزوجته ستيفاني عازار: طول عمري مستني شخص مثلك I’ve been waiting my whole life for someone like you. لم يكن يفكر لا بالحرب ولا بالقتل. كان يحب ونقطة على السطر. سليمان سركيس يشبه كثيراً من شباب لبنان الذين ما زالوا يثقون بأن لبنان لهم.


في الوقائع


فماذا حصل في السابع من تشرين وتطور في 13 تشرين؟


وجع أهالي شكا واضح. إلتقينا الكثيرين وكلهم رددوا: «قلوبنا عصرت حزناً على أطفال غزة لكن لدينا ثلاثمائة شهيد قتلوا على أيدي فلسطينيين. وفي السابع من تشرين، يوم دخلت حماس على إسرائيل قوصوا ليوم القواص. والخرطوش نزل على رؤوس أهالي شكا. ونزلوا على متن نحو مئة دراجة نارية واقتحموا شكا وراحوا يهتفون: آه آه سمير جعجع صهيوني. شتموا بكركي. رموا القاذورات الكلامية في كل الإتجاهات. وصودف مرور الرجلين فارس سركيس (والد سليمان) وأبو مارون. حصل تلاسن. حملوا العصي في وجه الإثنين. وحصل إطلاق رصاص. وقيل يومها: جرح شخصان. ماجد علاوي، شقيق المجرم، وشخص آخر لم يذكروا عنه شيئاً. هو أحد السوريين الذين كانوا يشاركون في الهجوم على شكا، إحتفاء بهجوم حماس. فمن أصاب ماجد؟ لا أحد يعرف. لا شيء يثبت ما إذا كان قد أصيب بمسدس أبو مارون أو بأسلحة المهاجمين. لكن، أين المصاب الآخر؟ هل من يعرف عنه شيئا؟ الفيديوات موجودة جميعها في بلدية شكا فلتفرج عنها».


نتابع الإصغاء الى أولاد شكا وأنفه: «أبو مارون اعتقل في سوريا تسع سنوات. وهناك عشرات مثل أبو مارون إستفزهم المشهد. إتصلوا بغياث يزبك (نائب قضاء البترون) فقال لهم بالحرف: إتصلوا بالدرك. دقوا للجيش. لكن الجيش تأخر كثيراً في الوصول».


ماذا يقول غياث يزبك؟ يجيب: «نحن نحاول حصر كل انواع الإرهاب بمجموعة معينة، بزعرانٍ، الجيش داهمهم لكنه لم يعثر على أحد. ونحن ما زلنا حتى اللحظة نأبى الإنزلاق الى متاهات لعبة الزعران. شكا كلها جرحت يوم الإثنين. وأنا، منذ عام ونصف، أسجل الإعتداءات التي تحصل وأرفعها الى الجهات المعنية. في كل عرس وفي كل مأتم يرمون رصاصهم على رؤوس أهل شكا وهناك إستفزازات يومية وفي الآخر حين دخلت حماس غلاف غزة دخلوا هم إلى شكا. والصبي (ماجد علاوي) أصيب برصاص لا نعرف مصدره. ونحن سلمنا امرنا للدولة. وبعد الحادث دخلنا في حديث مع مشايخ العشيرة الذين رفضوا الإستفزاز من الشباب الطائش لكنهم إستمروا في استفزازهم ونحن ننتظر تدخل الدولة. أما اليوم فنشعر وكأن الفتنة تزحف على قدميها. هناك تهديدات واضحة صريحة تقول: بدنا نضربكم. شكا ترفض نكء جراح الماضي لكنها لم تنسَ 300 شهيد فلماذا الإصرار على استفزازها. هل هكذا تبنى الأوطان؟».


واضحٌ هو غياث يزبك في تحديد الصورة. هو يطالب بالدولة. الأهالي يطالبون أيضا بالدولة. لكن، إذا كان أحد يعرف عنها شيئاً فليبلغهم ذلك.


لغة الثأر


نتجول في شكا. ثمة نصب تذكاري كبير لشهدائها في نصف البلدة. لم ينس ناس شكا الخامس من تموز (1976)، يوم انهمرت القذائف على شكا وحامات وبدأ الهجوم الفلسطيني على محاور كفرحزير وأنفه في اتجاه شكا ومن كفريا نزولا في الحقول الى منطقة الهري... في ذاك اليوم حوصرت شكا من أربع جهات وأصبحت جزيرة معزولة لكن اهلها ومقاتليها واجهوا. شكا تتذكر ذلك اليوم أكثر من أي يوم. حكايات عرب التلة أو تل العرب في أنفه (وعددهم نحو ألف ومع السوريين يصبحون ألفين) يروى عنها في المنطقة الكثير. هؤلاء يستسيغون الأخذ بالثأر كلما حلا لهم ذلك. يذكر الأهالي يوم حصل خلاف بين إيلي وهبي وأحد أبناء العشيرة ثأروا عبر أحد السكان من آل وهبة. وتكررت الإعتداءات: على محطة شادي المسيح، وعلى فريد مكاري (النائب الراحل) وعلى لاس ساليناس، وعلى نجيب صليبا الذي ضرب حتى الموت وأصيب بغيبوبة، وعلى جورجيت دعبول التي كانت تعمل لدى مكاري... وفي كلِ مرة أوقف فيها الجناة أعيد إطلاق سراحهم. شكا تعاني الأمرين من زعران بينهم. يوم أزمة البنزين لم يتركوا نقطة بنزين إلا وأخذوها وباعوها في السوق السوداء. واضطرت محطة كورال في المنطقة الى الإقفال بسببهم. وهم لا يسرقون الزيتون حبوبا بل يقلعون الأشجار من جذورها لبيعها حطباً ومن يواجه يعتدون عليه».


أهالي شكا يشعرون اليوم باستياءٍ كبير ويأبون الذل ولا يريدون أن يعود شبح العامين 1975 و1976 الى منطقتهم. الأمر حساس جداً. فهل من يهتم؟


وجع الأم


نعود أدراجنا نحو سيدة المعونات. هنا سليمان سركيس وأهل وأقارب ومعارف وجيران سليمان سركيس. إنهم يجلسون في غرفة الكافيتريا عند مدخل الطوارئ. الكلام في هذا الوقت لا معنى له وحده صوت الأم، أم سليمان، يخرق جدار الصمت: يا حبيب إمك... يا حياتي يا ماما... خذوا قلبي... خذوا رأسي وأعيدوا الحياة الى رأسه... يا تقبرني يا ماما». ثمة رصاصة عالقة في رأس العريس سليمان وثمة قهر كبير كامن في قلوب أهالي شكا وأنفه وثمة فجور كبير في أيدي من ينالون حظوة من نائب ولو كان سابقا. أسعد حردان جعل بعض سكان تلة العرب يفردون أجنحتهم ولا يعودون قادرين على أن يضعوا اقدامهم على الأرض.


نعود أدراجنا مقتنعين أن الفتنة على قاب قوسين ومطلوب تجنّبها، وأن هناك من يرون الجرح في رأسكَ لكنهم لا يشعرون بالألم الذي تعانيه. فمن سمعوا عن الرصاصة القابعة في رأس سليمان سركيس ولم يروا أمه لا يعرفون شيئاً