جوزف القصيفي نقيب محرري الصحافة
حلت الذكرى العاشرة لاختطاف مطراني حلب للروم والسريان الارثوذكس بولس اليازجي ويوحنا ابراهيم، فيما المساعي الناشطة لمعرفة مصيرهما لا تزال مستمرة، ويضطلع المدير العام السابق للامن العام اللواء عباس ابراهيم بجزء كبير منها، مستكملا ما كان بدأه منذ الأيام الأولى لوقوع مأساة الاختطاف.
لكن هذه المأساة لم تكن حدثا عابرا، أو بِنت لحظتها، أو خطأ غير متعمد، بل كانت مؤشرا لخطة في منتهى الخطورة، بدأت منذ الغزو الاميركي للعراق في العام 2003، عندما دفع مسيحيّوه ثمنا غاليا من دمائهم واملاكهم وجنى اعمارهم، بعدما أُرغموا على النزوح عنه، وهم في عمق النسيج الوطني والقومي لبلاد ما بين النهرين، أرضهم التاريخية، حيث جذورهم ومنابتهم. ويكفي التمعن في أعدادهم راهنا ومقارنتها بما كانت عليه قبل هذا الغزو، للدلالة على الخسارة الاستراتيجية التي منيوا بها. ولم يقتصر الأمر على العراق، فبعد سنوات نَبت ما سُمّي «الربيع العربي» الذي لم يلبث أن تحول إلى جحيم مقيم بفعل السياسة التي انتهجها الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما ووزيرة خارجيته هيلاري كلينتون اللذين راهنا على الاخوان المسلمين لإحداث تغيير في الانظمة العربية القائمة، خصوصا في مصر وسوريا. وكاد الاقباط أن يكونوا من ضحايا هذا «الربيع»، لو أنّ حكم الرئيس الراحل محمد مرسي استطاع الثبات والاقلاع.
على أنّ ما سُمّي «الثورة» في سوريا التي قادها في بادىء الامر، علمانيون ويساريون ومستقلون، لم تعتم أن وقعت في حبائل الاسلاميين الذين توسّلوا الأساليب الدموية المفرطة لا في مواجهة نظام الرئيس بشار الاسد فحسب، بل ضد المعتدلين السنة، والمسيحيين والعلويين والدروز، وسائر الطوائف التي كانت تتعايش وتتفاعل في إطار ثقافة الحياة الواحدة التي تشدّ مكونات المجتمع السوري بعضها إلى بعض. ولستُ في حاجة إلى تعداد المذابح الموصوفة التي وقعت، وأوقعت الهلع في صفوف المسيحيين خوفاً من مصير بائس ينتظرهم. ولم يكن اختطاف الراهبات في دير معلولا، وذبح واعدام العديد من الكهنة على يد «داعش» و»جبهة النصرة» والهجوم على العديد من بلداتهم وقراهم في القصير وربله، وجرمانا وسواها من البلدات والاحياء التي تحتضنهم ومحاصرتها، مَعزولاً عن هذه الخطة التي تتسِم بالنزعة الالغائية للآخر المختلف.
اما في إسرائيل، فإن الدوائر الصهيونية وغرفها السوداء لم تتوقف عن مضايقة المسيحيين الفلسطينيين الذين تناقَصَ عددهم وضمر حضورهم على نحو كبير، باعتماد خطة معقدة وخبيثة ترمي إلى استئصالهم من دون إسالة الدم وتوسّل العنف. وسنأتي على تفاصيل هذه الخطة في مقالة لاحقة.
وعلى خلاف ما كان متوقعاً لم يكتب النجاح لـ«تنظيم الدولة الاسلامية» في خطته الرامية لإحداث خرق استراتيجي يقلب الموازين في لبنان، ويفرز واقعا جديدا على ارضه، يخلط الأوراق، ويؤجّج الصراعات الطائفية والمذهبية، ويطيح بالتعددية والتنوع اللذين يميّزان وطن الارز عن سواه من البلدان المجاورة والبعيدة.
هذا الخرق فشل فشلا ذريعا، لأنّ طبيعة لبنان الذي اكتوى بلظى الحروب الداخلية، باتت تلفظ المغامرات العابثة التي تغتذي من الانقسامات السياسية الحادة التي تتقاذف البلاد.
من هنا لا بد من ملاحظة الآتي والتوقف عنده:
- إنّ التنوّع في المشرق العربي إلى أفول ويخلي الساح أمام أحادية لا تشبه تاريخه.
- إنّ المسيحيين يهجرون المنطقة مدفوعين بأسباب القلق الجاد على المصير.
- إنّ المسيحيين في لبنان هم على خطى اخوتهم في الدين من أبناء البلدان المجاورة، ولو لم يتعرّضوا إلى ما تعرض له هؤلاء.
- على الكنائس الشرقية الارثوذكسية، الكاثوليكية، والانجيلية، أن تتحمّل مسؤولياتها في مواجهة إفراغ دول المشرق العربي من ابنائها، ووضع استراتيجية موحدة عاجلة على المَديين القصير والبعيد، بربط المسيحيين بأرضهم واوطانهم. والّا تحوّلت مقدساتهم واديرتهم ودور عبادتهم إلى معالم سياحية ومتاحف.
- على الكنائس في لبنان ان تكون وفية لروحية «السينودوس» الذي أطلقه البابا القديس يوحنا بولس الثاني الذي اعتبر أن المسيحيين في الشرق هم في صلب النسيج الانساني والمجتمعي في هذا الشرق، وأن عليهم الانخراط وطنيا واجتماعيا في نهضة أوطانهم وتقدمها، لأنهم يحملون مشقة الحفاظ على التنوّع، وتَترتّب عليهم مسؤولية عظيمة في الدفاع عن طابعها التعددي.
- على الكنائس أن توظّف أوقافها، وتبني لوبيات فاعلة في دنيا الانتشار، من أجل صون الهوية التعددية للمشرق العربي ومنع انزلاقه إلى أحادية مدمّرة. وعلى الكنائس في لبنان الحفاظ على الانتشارية المسيحية واعادتها إلى سابق عهدها، بعدما تقلّصت، وباتت تقتصر على عدد من مناطق جبل لبنان. وهذا يقتضي وضع مخطط إنمائي - تربوي - اجتماعي - اقتصادي، لتعزيز التجذر في الأرض.
إنّ كل ما تقدّم لا يؤتى أكله اذا لم يتيسّر له رافعة معنوية ومادية والتزامات اخلاقية وأدبية من النخب الاسلامية: الروحية والمدنية الاسلامية، التي تؤمن بأنّ غنى الشرق، وازدهاره، وتطوره لا يمكن أن يتحقق بالاحادية، بل بالتنوع الذي لا يتعارض مع الوحدة. وهنا لا بد من التذكير بالمقولة الشهيرة لرئيس «حزب الكتائب اللبنانية» الراحل بيار الجميل: «لا يكفي ان تقول للمسيحي: لا تخف. بل عليك ألا تجعله يشعر بالخوف». هذا هو التحدي.
وإن ما تحقق على صعيد الحوار المسيحي - الإسلامي في دولة الإمارات العربية المتحدة، والبحرين، والمبادرات الجريئة للمملكة العربية السعودية في هذا المجال، يحتاج إلى مزيد من البلورة، وارادة المتابعة، والانتقال من الحيّز النظري إلى الحيّز العملي. من دون إغفال الخطاب الديني المنفتح للأزهر في الفترة الأخيرة.
في ذكرى اختطاف المطرانين اليازجي وابراهيم، راوَدتني هذه الخواطر، وأنا أستمع إلى كلمات رئيس اللقاء الارثوذكسي النائب السابق مروان ابو فاضل، واللواء عباس ابراهيم، ووزير الخارجية والمغتربين الدكتور عبدالله بو حبيب، ورئيس الرابطة السريانية الملفونو حبيب افرام، والسادة مطارنة الطوائف المسيحية، ومجموعة من المثقفين يوم الخميس السادس من نيسان.
إن اختطاف المطرانين كان جرس الانذار، لا بل القنبلة العنقودية التي احدثت دويا مرعبا، وتشظيا خطيرا طاوَلَ النفوس، وعمّق الشعور بالخوف، وأدخلَ اليأس إلى قلوب من لا يزال يؤمن حتى الأمس القريب بأن يكون مشرقنا موطناً ينطوي على غنى إنساني نوعي، يتمثل في تآخي الديانات السماوية التي أبصرت النور على أرضه التي كانت منصة الانطلاق للكرازة برسالاتها.
لا لم يكن اختطاف المطرانين اليازجي وابراهيم حدثا عرضيا. إنما هو اختطاف للمشرق الذي طالما حلمنا به، وتحويله إلى مدارات تختلف عن طبيعة تكوينه السمحة، ووجهه الجميل التي أعمَلت فيه موسى «الداعشية» المعاصرة تشويهاً، حتى كاد ان يصبح مجرد بقعة جغرافية فاقدة الروح والهوية.