كتبت النهار
لا تقتصر "غرائب" الانهيار في لبنان ومفارقاته، ولا نتناول كوارثه ومآسيه، على أن اللبنانيين مجبرون في ذروة معاناة يومياتهم على تتبّع تأثير تحلل الدولة أولاً بأول في كل المجالات والاتجاهات عند أبواب الاستحقاق الرئاسي، بل باتوا الآن مجبرين أيضاً على رصد "كبائر" الأحداث الدولية التي ستلفحهم في مرحلة حسم الاستحقاق الرئاسي برياحها الحارة. منذ نشوب الحرب الروسية على أوكرانيا لم يجبر شعب في العالم، باستثناء الشعوب الأوروبية طبعاً، كالشعب اللبناني على تتبّع وتلقي تطوّرات هذه الحرب كأنه في "بوز المدفع" في ظل أزمتي الحبوب والمحروقات اللتين يكابد اللبنانيون تداعياتهما أكثر من أي شعب آخر. تحلّ الآن المهلة السحرية لانتخاب رئيس الجمهورية اللبنانية فإذا باللبنانيين كأنهم"أم الصبي" ليس في استحقاقهم بل في العد العكسي اللاهب لإبرام الاتفاق النووي نفسه، هذا الذي يقال إنه سيولد في قابل الأيام. الاتفاق النووي الذي تتوجّس منه دول وجهات كثيرة في الشرق الأوسط قد يغدو على اللبنانيين، في ظل المقولات الرائجة راهناً في شتى الاتجاهات والكواليس، أن يتحوّلوا الى خبراء استراتيجيين بالجملة لدرس آثاره المباشرة وغير المباشرة في تسمية واختيار رئيس لبنان المقبل أو تزكية خيار الفراغ المهرول علينا أساساً بنووي أو بدونه.
ولكن، مع هذه المفارقات غير الغريبة في جذورها أساساً على تاريخ الاستحقاقات الرئاسية في لبنان لجهة ترقب وانتظار "الخارج"، هذا الحاضر الدائم الساحق في صناعة المصائر اللبنانية، في إسقاط المناخ التسووي أو إشعال المعارك الصراعية وإذكائها في المحطات الرئاسية، يبدو أننا سنكون هذه المرة أمام تبديل جذري في قواعد ثقافة الترقب والانتظار والرهان وكل مشتقات الاتكال على الخارج. ثمة في مناخ الوقائع الداخلية والخارجية على السواء معالم تطوّر نادر الى حدود بعيدة، (نتردّد الآن في تثبيته كتطوّر تاريخي تجنباً للسقوط في التسرّع)، يتشكل عبر "نأي" الدول المعنيّة تقليدياً برعاية الوضع اللبناني، إن عبر نفوذاتها أو ارتباطات قوى داخلية لبنانية بها، عن الانخراط في الاستحقاق الرئاسي أقله بناءً على مقارنات مع التجارب السابقة. لن تتبدّل هذه الصورة كثيراً أو في العمق بعد أسابيع على الأرجح إلا في اتجاه يكرّس حقيقة أن لبنان سيكون لمرّة نادرة أمام أقل حجم تدخل خارجي في استحقاقه إلا في حالة كارثية تنجم عن حرب أو اضطرابات من شأنها أن تقحم الدول في الواقع الناشئ المفترض. تبعاً لذلك ترانا الآن أمام قوى إما تعدّ نفسها لاستغلال انصراف المنطقة والعالم المعنيّ عنّا الى تطورات الاتفاق النووي، أو انصراف أوروبا للارتجاف بهمّ شتاء قطبي جليدي من جراء تداعيات الحرب الروسية على أوكرانيا، أو انصراف معظم الدول الى لملمة تداعيات اقتصادات مرهقة من جراء سنوات الكورونا. كل هذا ينبئنا بأننا قد نكون أمام استحقاق معزول لفترة غير قصيرة عن الانخراط الدولي "المأمول" و"المرتجى" من قوى لبنانية كثيرة بما يرتب خيارات بارزة للغاية متى كانت في اتجاه لبننة صرفة للاستحقاق، أو بالغة الخطورة متى عصفت بأصحاب الرؤوس الحامية أحلام الانقضاض على الاستحقاق بقصد المجيء برئيس تبعي للمحور الممانع بما سيشعل حتماً بقايا لبنان. أما الفراغ فسيكون "تحصيل الحاصل" إذا سقطت فرصة الاحتكام الى انتخابات تسيّرها التركة المرعبة للانهيار بحسن اختيار الرئيس المقبل وليس برموز الانزلاق الى أبشع النهايات