من أيّار إلى تمّوز، بين سلامٍ مرفوضٍ وهدنةٍ مفروضة… أين السيادة اللبنانيّة؟




د. ليون سيوفي – باحث وكاتبٍ سياسيّ

على امتداد التاريخ اللبنانيّ الحديث، لم يكن الصراع مع إسرائيل مجرّد مواجهةٍ حدوديّة، بل اختبارًا دائمًا لمدى قدرةِ الدولةِ اللبنانيّة على الحفاظِ على سيادتها واستقلالِ قرارها الوطنيّ. وفي هذا السياق، شكّل اتفاقُ السابعِ عشر من أيّار عام 1983 والقرارُ 1701 الصادر عام 2006 محطّتَين متباعدتَين زمنًا، متقاربتَين في المعنى، إذ وُلِد كلٌّ منهما من رحمِ حربٍ قاسيةٍ ومن حاجةٍ ملحّةٍ إلى وقفِ نزيفِ الدمِ والدمار.
لكنّ الفارقَ بينهما، أنّ الأوّل كان سلامًا مرفوضًا، والثاني هدنةً مفروضة، والاثنان معًا جسّدا معضلةَ لبنان الدائمة، كيف يُنهي حروبه دون أن يُنهي سيادته؟
اتفاقُ السابعِ عشر من أيّار، فرض سلامٌ على مقاسِ الاحتلال بعد الاجتياح الإسرائيليّ للبنان عام 1982 واحتلال بيروت، وجدت السلطةُ اللبنانيّة نفسها تحت ضغطٍ أميركيٍّ هائلٍ لتوقيعِ اتفاقٍ يُنهي الحربَ ويُعيد انتشارَ الجيشِ الإسرائيليّ في الجنوب. فكان اتفاقُ السابعِ عشر من أيّار 1983، الذي وُقّع برعايةِ واشنطن، طامحًا إلى “سلامٍ لبنانيٍّ إسرائيليٍّ” يُنهي حالةَ الحرب.
غير أنّ هذا الاتفاقَ حمل في طيّاته خطيئةً وطنيّةً كبرى، إذ ربط انسحابَ إسرائيل من الأراضي اللبنانيّة بشروطٍ أمنيّةٍ لصالحها، وفرض على الدولةِ اللبنانيّة التزاماتٍ تُشبهُ التطبيعَ الكامل. بدا الاتفاق كأنّه يُعيد بناءَ السيادةِ اللبنانيّة على أنقاضِ الكرامةِ الوطنيّة.
رفضه معظمُ اللبنانيّين، مسلمين ومسيحيّين، لأنّه مسَّ جوهرَ الانتماءِ الوطنيّ، وأسقطه الشعبُ والمقاومةُ بعد أقلّ من عام.
لقد أراد صانعوه إنهاءَ الحرب، فانتهوا بتعميقِ الانقسام.
القرارُ 1701 كان هدنةٌ لتجنّبِ الانهيار فبعد ثلاثةٍ وعشرين عامًا، وجد لبنان نفسه مجدّدًا في مواجهةٍ مدمّرةٍ خلال حرب تمّوز 2006. لم تستطع إسرائيل تحقيقَ نصرٍ عسكريّ، ولم يتمكّن حزبُ الله من فرضِ توازنٍ نهائيّ، فكان لا بدّ من مخرجٍ سياسيّ. عندها وُلد القرارُ 1701 عن مجلسِ الأمن، بضغطٍ فرنسيٍّ أميركيٍّ، ليُوقف العملياتِ القتاليّةَ ويُعيد الجيشَ اللبنانيّ إلى الجنوبِ بدعمٍ من قوّاتِ الأممِ المتّحدة.
كان القرارُ بمثابةِ إنقاذٍ اضطراريٍّ للدولةِ من السقوط الكامل، إذ أوقف الحرب، وثبّت حدودًا هشّةً للتهدئة، وأعاد بعضَ هيبةِ الدولةِ إلى الجنوب. لكنّه، في الوقت نفسه، أبقى الاحتلالَ الإسرائيليّ في مزارعِ شبعا وكفرشوبا، وفرض قيودًا على حركةِ المقاومةِ جنوبَ الليطاني، ما جعله توازنًا قسريًّا أكثرَ منه حلًّا دائمًا.
ومع ذلك، لا يمكن إنكارُ أنّه منح لبنان أطولَ فترةِ استقرارٍ نسبيّ منذ الاستقلال، ومهّد لمرحلةِ إعادةِ إعمارٍ وتوازنٍ سياسيٍّ داخليّ.
الأسبابُ والنتائجُ بين الاحتلالِ والرّدع...اتفاقُ السابعِ عشر من أيّار جاء نتيجةَ احتلالٍ مباشرٍ لبيروت وفراغٍ سياسيٍّ ووصايةٍ أميركيّةٍ شبه كاملةٍ أرادت من لبنان أن يكون خطَّ دفاعٍ أمام النفوذِ السوريّ والإيرانيّ.
أمّا القرارُ 1701 فجاء نتيجةَ حربٍ قاسيةٍ لم يستطع أحدٌ حسمها، وضغوطٍ دوليّةٍ لإنقاذِ المدنيّين ومنعِ الانهيار.
الفرقُ الجوهريّ بينهما أنّ الأوّل فرّط بالسيادةِ من أجلِ الانسحاب، بينما الثاني حافظ على الحدّ الأدنى من السيادةِ مقابلَ التهدئة.
الأوّل وُقّع من موقعِ الضعفِ السياسيّ، والثاني من موقعِ الصمودِ العسكريّ.
بين السيادةِ والاستقرار أيّهما أصلحُ للبنان؟
على مستوى الاستقرار، القرارُ 1701 أفضلُ بكثير، لأنّه أوقف حربًا مدمّرةً وضَمِن هدوءًا طويلًا.
فكان على مستوى الشعب، مقبولًا لأنّه أنقذ الأرواحَ والمنازل، بينما السابعُ عشر من أيّار قسّم الشعبَ وشرذم الدولة.
أمّا على مستوى السيادةِ الوطنيّة، فالاتفاقُ القديم مسَّ به علنًا وأدخل إسرائيل إلى القرارِ اللبنانيّ، بينما القرارُ الدوليّ قيّده ميدانيًّا لكنّه أبقاه دستوريًّا بيد الدولة.
بمعنى آخر، كان اتفاقُ السابعِ عشر من أيّار هزيمةً للسيادةِ باسمِ السلام، بينما القرارُ 1701 تسويةً ناقصةً باسمِ الصمود.
العِبرةُ الوطنيّة ...لا استقرارَ دائمًا بلا سيادة، ولا سيادةَ بلا وحدةٍ وطنيّة.
لبنان لا يحتاج إلى معاهدةٍ جديدةٍ مع إسرائيل، بقدرِ ما يحتاج إلى اتفاقٍ داخليٍّ لبنانيٍّ لبنانيٍّ يُعيد تعريفَ علاقتِه بالمقاومة، ويضعُ استراتيجيّةَ دفاعٍ وطنيّةً موحّدةً تُنهي ازدواجيّةَ السلاحِ والقرار.
فالسلامُ الحقيقيّ لا يُكتَب في واشنطن أو نيويورك، بل يُكتَب في بيروت، على طاولةٍ يجلسُ إليها اللبنانيّون فقط، بلا وصايةٍ ولا ارتهان.
فإذا اتّحد اللبنانيّون، سقطت الحاجةُ إلى كلّ “سبعةِ عشرَ أيّارٍ” جديد، وإلى كلّ “1701” آخر...