د. ليون سيوفي – باحثٌ وكاتبٌ سياسيّ
مرشح سابق لرئاسة الجمهورية
منذ أن عاد دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، وهو يسعى إلى إعادة إنتاج صورته كرجلٍ قويٍّ يحمل راية “السلام من موقع القوّة”، فحاول الترويج لنفسه كمؤهَّلٍ لجائزة نوبل للسلام، مستندًا إلى بعض التفاهمات التي نسجها شرقاً وغرباً. غير أنّ الرياح التي هبّت من الداخل الأميركيّ جاءت بما لم تشتهِ سفنه، إذ انقلبت عليه شوارع المدن الكبرى في مظاهراتٍ حاشدةٍ غير مسبوقة حملت شعارًا واحدًا: «No Kings – لا ملوك في أميركا».
عرشٌ يهتزّ… ونوبل تتبخّر...لم تكن تلك المظاهرات مجرّد ردّ فعلٍ شعبيٍّ غاضب، بل تحوّلت إلى رسالةٍ سياسيةٍ عميقةٍ للعالم بأنّ ترامب، الذي حاول أن يُصدّر صورة “صانع السلام”، بات يواجه أزمةً وجوديّةً في الداخل تهدّد هيبة سلطته. فحين يهتزّ الشارع الأميركيّ، تهتزّ بالضرورة صورة الرئيس أمام المجتمع الدوليّ، ويُعاد تعريفه ليس كقائدٍ للسلام، بل كزعيمٍ محاصرٍ بالرفض الداخليّ.
ومهما حاولت وسائل إعلامه تصوير الأمر كمؤامرةٍ من “النخب الليبرالية”، إلا أنّ حجم المشاركة الشعبيّ، واتّساع رقعة التظاهرات لتشمل أكثر من خمسين ولاية، يؤكّدان أنّ المسألة تجاوزت الانقسام الحزبيّ إلى أزمةٍ تمسّ روح النظام الجمهوريّ ذاته.
السؤال الكبير من يقف وراء الموجة الاحتجاجية؟ ولماذا الآن؟
ما يحصل ليس انفجارًا عفويًّا، بل نتيجة تراكم غضبٍ طويلٍ من سياساتٍ داخليةٍ وقراراتٍ اقتصاديةٍ واتهاماتٍ بتجاوز الدستور.
وراء هذه الموجة تحالفٌ متنوّعٌ يضمّ جناحًا يساريًّا ديمقراطيًّا تقدّميًّا يخشى من “تسلّط رئاسيّ”.
منظمات حقوقية واجتماعية رأت في عهد ترامب تراجعًا في قيم الحريات.
شركات تكنولوجية كبرى تضايقت من قوانين الاحتكار الجديدة.
وقطاعاتٍ من النخبة الأمنية والاستخبارية السابقة التي تخوّفت من انزلاق السياسة الخارجية الأميركية نحو مغامراتٍ غير محسوبة.
أمّا التوقيت، فاختير بعناية فترامب كان يستعدّ لمرحلةٍ دبلوماسيةٍ جديدةٍ تهدف إلى حصد جائزة نوبل عبر مبادراتٍ “سلاميةٍ” في الشرق الأوسط وآسيا، فجاءت هذه التظاهرات لتُسقط تلك الصورة وتعيده إلى موقع الدفاع.
هل سبق أن تظاهر الأميركيون ضدّ رؤسائهم؟
نعم، من حرب فيتنام إلى غزو العراق، كان الشارع الأميركيّ دائمًا مرآةً حادّةً للضمير السياسيّ الوطنيّ.
لكنّ ما يميّز هذه الموجة أنّها عابرةٌ للأيديولوجيات، وأنّها جاءت في زمنٍ يسعى فيه الرئيس إلى تركيز السلطة بيده، ما جعلها أشبه بـ”انتفاضةٍ دفاعيّةٍ عن الدستور” لا مجرّد تظاهراتٍ سياسية.
حلفاء الخارج… بين الحذر والانقلاب الصامت
السؤال المشروع اليوم!! هل سينقلب حلفاء ترامب في الخارج عليه بعد اهتزاز صورته في الداخل؟
الجواب الواقعيّ ليس فورًا، لكنّ التصدّع سيبدأ فعلاً في الخفاء.
من المؤكد أوروبا التي تعاملت معه ببراغماتيةٍ حذرةٍ، بدأت تُعيد حساباتها، وخصوصاً في ظلّ تصاعد الخطاب اليمينيّ الداخليّ الذي يثير قلق العواصم الأوروبية من موجة “ترامبيّة جديدة” في القارة.
إسرائيل تتابع الحدث بقلق، لأنّ ترامب كان أحد أعمدة دعمها السياسيّ والماليّ، وأيّ ضعفٍ في قبضته يعني ضعفًا في قدرته على فرض أجنداتها.
دول الخليج التي راهنت على “استقرار الرجل القويّ” سنشهد انفتاح قنواتٍ موازيةٍ مع الصين وروسيا خشية تحوّلاتٍ مفاجئةٍ في البيت الأبيض.
أمّا الصين وروسيا وإيران، فيرون إن ما حصل جائهم على طبقٍ من ذهب فهم يشاهدون في المظاهرات فرصةً استراتيجيةً لإضعافه، إذ لا شيء يخدم خصوم واشنطن أكثر من رئيسٍ مشغولٍ بصراعاتٍ داخليةٍ تهزّ شرعيته أمام العالم.
ترامب سيحاول بلا شكّ اللجوء إلى “الهروب إلى الأمام” عبر تصعيدٍ خارجيٍّ لإعادة توحيد الداخل حوله، لكنّ المشهد تغيّر جذريًّا...الصين ستستفيد من ارتباكه لتوسيع نفوذها الاقتصاديّ في آسيا وإفريقيا، روسيا ستستغلّ الفوضى الأميركية لتثبيت حضورها في الشرق الأوسط وأوروبا الشرقية.إيران ستعتبر انشغال واشنطن فرصةً لتقوية حضورها الإقليميّ عبر تعزيز علاقاتها مع دولٍ كانت متردّدة.
بكلمةٍ أخرى، ترامب اليوم مضطرٌّ إلى الدفاع في أكثر من جبهةٍ في آنٍ واحد...جبهة الشارع الأميركيّ ، وجبهة الحزب الجمهوريّ المنقسم، وجبهة الحلفاء الذين بدأوا يتخلّون عنه بصمت، وجبهة القوى الدولية المنافسة التي تنتظر لحظة سقوطه الرمزيّ لتفرض موازين قوى جديدة.
خلاصة القول إنّ ما يجري في الولايات المتحدة ليس تمرّدًا على رئيسٍ فقط، بل اختبارٌ حقيقيٌّ لصلابة النظام الأميركيّ نفسه.
ترامب اليوم في أخطر مرحلة منذ عودته إلى البيت الأبيض، إذ خسر هالة “المنقذ” وبدأ يُنظر إليه كرئيسٍ منقسم على الداخل..
ترامب، الذي حلم بأن يُكرّم بجائزة نوبل للسلام، بات اليوم في مواجهةٍ مع “جائزة الواقع” القاسية،
واقعُ الاحتجاج، والانقسام، وفقدان السيطرة على رمزيّة القيادة.إنّ المظاهرات ضدّ ترامب ليست ثورة آنية بل محاولة منظمة لإعادة توازن النظام الأميركي بعد أن شعر كثيرون أنّ الرئيس تجاوز حدوده المؤسسية.
لكنّ سقوطه إن حصل لن يكون في الشارع، بل من داخل النظام نفسه، عبر التآكل السياسي والضغط الحزبي والقانونيّ المتواصل.
قد تهدأ المظاهرات، وقد تتبدّل العناوين، لكنّ الحقيقة الثابتة هي أنّ الولايات المتحدة تدخل مرحلة إعادة توازنٍ داخليٍّ عميق، وأنّ ترامب لم يعد يملك ترف الادّعاء بأنّه “المنقذ” بل عليه أن يثبت أنّه ما زال “الرئيس”.