د. ليون سيوفي – باحثٌ وكاتبٌ سياسيّ
في لحظةٍ إقليميّةٍ تتّشحُ بالغيومِ والريبة، يحلُّ رئيسُ جهازِ المخابراتِ المصريّة في بيروت، فيما تتزامنُ زيارتُه مع حضورِ المبعوثةِ الأميركيّة مورغان أورتاغوس، وكأنّ العاصمةَ اللبنانيّة عادت لتغدو مسرحَ المراسلاتِ غيرِ المعلنة بين الشرقِ والغرب. الزيارةُ ليست بروتوكولًا ولا مجاملةً سياسيّة؛ إنّها رسالةُ رصدٍ وتحذيرٍ، تُطلّ من شرفةِ القاهرة لتقرأَ ما يعتملُ في الجنوب اللبنانيّ وما يُحاكُ في دهاليزِ القرارِ الإقليميّ.
منذ أسابيع، تُظهرُ القاهرةُ حراكاً استخبارياً غيرَ مسبوق، فبعد جولاتها في تل أبيب وغزّة، تفتحُ بوّابةَ بيروت لتلتقطَ المؤشّرات وتُحدّد مسارَ التوتّر قبل أن يتحوّل إلى اشتعالٍ شامل. لا تأتي مصرُ بوجهٍ عربيٍّ فقط، بل بوجهٍ أمنيٍّ يدركُ أنّ أيّ انفجارٍ على الحدودِ اللبنانيّة الإسرائيليّة سيعيدُ ترتيبَ خرائطِ المنطقةِ بأسرها، من المتوسط إلى النيل. فالقاهرةُ تعرفُ أنّ الحربَ إن اندلعت، فلن تبقى محصورةً بين حزبِ الله وتلّ أبيب، بل ستصيبُ في شظاياها عمقَ الإقليمِ العربيّ كلّه.
في المقابل، لا يُمكنُ قراءةُ زيارةِ أورتاغوس بمعزلٍ عن التحرّك المصريّ. فواشنطن تُمسكُ بخيوطٍ متعدّدة: تراقبُ الجيشَ اللبناني، وتختبرُ موقفَ الحكومة، وتُرسلُ رسائلَ مشفّرةً إلى الحزبِ عبر قنواتٍ غير مباشرة. الأميركيون لا يريدون حرباً تُسقطُ استقرارَ شرقِ المتوسّط، لكنّهم لا يمانعونَ في توتيرٍ محسوبٍ يضمنُ بقاءَ لبنانَ في دائرةِ الضغطِ والسيطرة. ومن هنا جاءَ تزامنُ الحركتَين المصريّة والأميركيّة كجناحَين لنهجٍ واحدٍ يُعنى بضبطِ ميزانِ النار.
في الجنوب، الصورةُ أدقُّ ممّا تبدو على الشاشات... تحرّكاتٌ محدودة، تَبدُّلٌ في مواقعِ الرصد، اتّصالاتٌ حثيثةٌ بين البعثاتِ الدبلوماسيّة، وإشاراتٌ تُلتقطُ من وراء الحدود. كلُّ ذلك يُشيرُ إلى أنّ طرفاً ما يختبرُ حدودَ الصبرِ، فيما طرفٌ آخر يُعيدُ تموضعَه استعداداً لاحتمالاتٍ شتّى. مصرُ، بخبرتها الطويلة في قراءةِ موازينِ الميدان، تعرفُ أنّ التوتّر إذا تجاوزَ لحظةَ الضبطِ الأولى يصعبُ كبحُه، ولذلك تسعى لاحتواءِ النار قبل اشتعالها، لا بعده.
السيناريو الأقربُ اليوم هو التهدئة المنضبطة لا الحرب. فالقاهرةُ لا تدخلُ بيروت إلا لتمنعَ التصعيد، وأورتاغوس لا تحلُّ فيها إلا لتُعيدَ التموضعَ السياسيّ الأميركيّ بعد إخفاقِ جولاتِ الضغط السابقة. لكنّ الاحتمالَ الثاني، أي الاشتباك الميدانيّ المحدود، يبقى مطروحاً إذا أرادت تل أبيب اختبارَ الردعِ اللبنانيّ بعد صيفٍ حافلٍ بالتهديداتِ المتبادلة. حينها، ستتحرّكُ الوساطاتُ العربيّة سريعاً لاحتواءِ الموقف، وستظهرُ مصرُ في صورةِ الضامنِ والمُنقذ.
يبقى السؤال: هل هذه التحركاتُ كافيةٌ لتجنيبِ لبنانَ نارَ الحرب؟
الجوابُ يتوقّفُ على وعيِ الداخلِ اللبنانيّ وقدرتِه على قراءةِ الموقف. فإذا أصرّ البعضُ على تحويلِ الجنوبِ إلى ساحةِ رسائلٍ إقليميّة، فإنّ كلَّ وساطةٍ ستبقى مؤقّتةً وهشّة. أمّا إذا استُخدمتِ الفرصةُ المصريّة الأميركيّة بحكمةٍ وذكاءٍ، فقد تُرسَمُ خطوطُ تهدئةٍ جديدة تحفظُ لبنانَ مؤقّتاً من الانفجار.
بيروتُ اليوم ليست على موعدٍ مع الحربِ بقدرِ ما هي على حافةِ اختبارٍ للنار. فالزيارتان المصريّة والأميركيّة هما بمثابةِ إنذارٍ مبكّرٍ بأنّ الغدَ مفتوحٌ على كلِّ الاحتمالات. وما بين ضغطِ العواصمِ الكبرى وصبرِ الجنوبِ المقاوم، يقفُ لبنانُ مرّةً أخرى أمامَ المِفترق، إمّا أن يُمسكَ بخيوطِ قدرِه، وإمّا أن يُتركَ لرياحِ الآخرين تعبثُ بمصيرِه.
إنَّ الحروبَ لا تبدأُ بصاروخٍ، بل بخطأٍ في التقدير. وكلُّ تجاهلٍ لصوتِ العقلِ في هذه اللحظةِ قد يفتحُ على لبنانَ أبوابَ دمارٍ لا تُغلق. فالبلدُ الذي لم يتعافَ بعدُ من أزماتهِ الاقتصاديّة والاجتماعيّة لا يحتملُ مغامرةً جديدةً تُعيدُه إلى نقطةِ الصفر.
إنّ صوتَ الحكمةِ يجبُ أن يعلو على ضجيجِ السلاح، لأنّ الحربَ حين تُقرَعُ طبولُها لا تميّزُ بين مقاومٍ وجنديٍّ ومدنيّ...
فليتنبّه الجميع...شرارةُ النار إن انطلقت من الجنوب، فلن تبقي في لبنانَ بيتًا آمنًا ولا مدينةً بمنأى عن اللهيب.
