بشرى سيبلاني … عندما تتحوّل الصورة إلى محاكمة للنفس

Achrafieh News 📰

جوسلين جريس _ الاشرفية نيوز

في زمن يفيض بالمحتوى السطحي واللقطات المكرّرة، تأتي بشرى سيبلاني لتقدّم عملاً بصرياً يخرج عن المألوف: فيديو قصير، لكنّه محمّل بالطبقات الرمزية والدلالات التي تستدعي القراءة النقدية أكثر مما تدعو إلى المشاهدة العابرة.

منذ الإطار الأول، نواجه امرأة تقف وسط صور متناثرة على الأرض. اللقطة ليست بريئة، فهي تختصر علاقة الإنسان بذاكرته: صور تمثّل بقايا حياة سابقة، ذكريات مُجمّدة في لحظة عابرة، لكنها في الوقت نفسه تحولت إلى عبء. قرار سيبلاني بجمعها في كيس قمامة أسود لا ينتمي إلى الفعل العابر، بل إلى فعل سينمائي محسوب. اللون الأسود هنا ليس مجرّد تفصيل، بل تكثيف للحداد على مرحلة، والتخلّص الواعي من تاريخ شخصي لم يعد يصلح أن يُحمل معه إلى المستقبل.


التبدّل في الأزياء لاحقاً ليس عنصراً جمالياً فحسب، بل يوازي التحوّل الداخلي للشخصية. من قميص أسود شفاف إلى فستان قصير وسترة رسمية وحذاء بكعب عالٍ، تُعيد سيبلاني صياغة صورتها أمام الكاميرا: امرأة أكثر صلابة، أكثر حضوراً، وأبعد ما تكون عن الانكسار. حقيبة اليد الخضراء التي تستبدلها بالكيس الأسود تمثّل أيضاً مفارقة لافتة: الأخضر، لون الحياة والتجدد، يُقصى لصالح الأسود الذي يبتلع الماضي. إنها مفاضلة جريئة بين ما يجب حمله وما يجب رميه.

المشهد المحوري يأتي عند الموقد. النار ليست مجرد خلفية درامية، بل شخصية ثانية في العمل. إنها المحرّر والجلاد في آن: تلتهم الصور، تمحو الوجوه، وتترك وراءها رماداً بلا هوية. لكن الكاميرا تتعمد التركيز على صورة واحدة تحترق، تُظهر سيبلاني مبتسمة. هنا يكمن قلب العمل: الابتسامة لم تعد استجابة لذكرى سعيدة، بل فعل تحرّر من ماضٍ لم يعد قادراً على التحكّم بالحاضر.

النص المرافق يضاعف قوة الصورة. سيبلاني تتحدث بضمير الأنا، لكنها لا تنطق خطاباً عادياً؛ إنها تكتب ميثاقاً شخصياً، مواجهة صريحة مع الخوف والاعتذار والرضوخ. حين تقول: "أنا ما متت، بس النسخة اللي ما كانت تعرف قيمتها هي اللي ماتت"، نكتشف أن العمل كله ليس إعلان موت، بل ولادة فكرية وجمالية جديدة.

 يعتمد الفيديو على توازن مدروس بين الواقعية الرمزية والإيجاز الدرامي. لا مشاهد زائدة، ولا حوار متكلّف. كل لقطة مشغولة كأنها جزء من لوحة تشكيلية تتحرك. الإضاءة الخافتة، الألوان الداكنة، والانتقال من الداخل إلى الخارج، جميعها أدوات تخدم رسالة واحدة: العبور من الظلمة إلى قرار النور الداخلي.

هذا العمل يضع سيبلاني في خانة المبدع الذي لا يكتفي بعرض الذات، بل يطرح سؤالاً أكبر على المشاهد: إلى أي مدى نحن مستعدون لإحراق نسخنا القديمة لنعيش بجرأة؟ هل نملك شجاعة أن نحمل ماضينا في كيس قمامة ونضعه في النار من دون أن نلتفت؟

في النهاية، ما قدّمته بشرى سيبلاني ليس مجرد فيديو شخصي، بل بيان بصري مكتوب بالنار والكلمة. عمل يُشبه طقوس العبور القديمة، لكنه ممهور بتوقيع امرأة معاصرة قررت أن تضع حداً للخوف، وتعلن بملء الصورة: الآن يبدأ زمنها هي.