في ظل النقاش اللبناني المستعر والمستمر حول السيادة ومتطلبات فرْضِها، تواصل الحكومة لعبة «العربة والحصان»، وتتحضّر لاستكمال حلقة «القرارات السيادية» بمناقشة خطة نزع سلاح حزب الله، فيما يواصل العدو الإسرائيلي انتهاكاته، في ظل عجز تاريخي للجيش، وتواطؤ «اليونيفل»، برعاية أميركية
لم ينجح العدو الإسرائيلي خلال 66 يوماً من الحرب في تثبيت موطئ قدم داخل القرى الجنوبية. لكنه، وللمفارقة، حقق بعد وقف إطلاق النار في تشرين الثاني 2024 ما عجز عنه تحت نيران المواجهة: احتلال خمس نقاط داخل الأراضي اللبنانية وفرض غارات واغتيالات شبه يومية على كامل الجغرافيا اللبنانية.
بهذا، فإن التزام حزب الله بالانسحاب من جنوب الليطاني وتسليم قرار الحرب والسلم للدولة والجيش منح العدو مكاسب لم يستطع انتزاعها بالقوة العسكرية وحدها، ليبقى السؤال مطروحاً في قلب النقاش اللبناني: هل تكفي الدولة وحدها لحماية السيادة، أم أنّ غياب المقاومة يترك الباب مفتوحاً لانتهاكها؟
عند الرابعة من فجر 27 تشرين الثاني 2024، أصبحت منطقة جنوب النهر، بموجب اتفاق وقف إطلاق النار الذي وافقت عليه الدولة اللبنانية والعدو الإسرائيلي برعاية أميركية وفرنسية، تحت مسؤولية الجيش اللبناني وقوات اليونيفل، بعدما أكدت المقاومة التزامها بوقف النار.
لكن التطورات العسكرية والميدانية اللاحقة لم تكن المقاومة مسؤولة عنها، بل القوتان الرئيسيتان اللتان تسلمتا إدارة كامل منطقة جنوب نهر الليطاني. غير أنّ هاتين القوتين اصطدمتا بقرار العدو الإسرائيلي الذي أخلّ بالتزامه بوقف إطلاق النار، وواصل الحرب بأساليب أخرى.
وفي ظل عجز الدولة و«قواها الذاتية»، سواء عسكرية أو ديبلوماسية، عن حماية الحدود وفرض احترام اتفاق وقف النار على العدو، نفّذ جيش الاحتلال أجندة عسكرية وأمنية تحت أنظار الجيش اللبناني وقوات اليونيفل، فتوغّل في أحياء منعته المقاومة من دخولها سابقاً، وفرض سياسة «الأرض المحروقة» بدلاً من الانسحاب، منفّذاً عمليات هدم وتجريف ونسف واسعة طالت المنازل والبنية التحتية في عشرات القرى على الحافة الأمامية، وواصل استهداف المدنيين والجيش على حد سواء.
في المقابل، فشل الجيش اللبناني في فرض عملية انتشار واسعة منذ دخول اتفاق وقف النار حيّز التنفيذ. فقد كانت وتيرة انتشاره بطيئة ومتعثّرة، وتتم تبعاً للانسحابات الإسرائيلية الجزئية.
وغالباً ما دخل بلدات بعد انسحاب قوات العدو منها، وفي حالات عدة أعاقت قوات العدو مهمات الجيش، من دون أي رد فعل منه.
فعلى سبيل المثال، قطعت الدبابات الإسرائيلية في 20 كانون الثاني الطريق في وادي السلوقي، ما أجّل مهمة دخول الجيش اللبناني، وفي 15 منه، انتظر الجيش عند المدخل الغربي لعيترون بينما واصلت الجرافات الإسرائيلية عمليات التجريف. وعموماً، اقتصرت مهمات الجيش على أنشطة محدودة مثل: تفجير الذخائر غير المنفجرة، تنظيم دخول الأهالي لتفقّد منازلهم (24 كانون الثاني 2025)، فتح الطرقات التي يقطعها العدو (5 كانون الثاني 2025)، ومواكبة العائدين (27 كانون الثاني 2025).
أثبتت التجربة تغيّر موازين الردع لمصلحة العدو عندما أصبح قرار الحرب والسلم بيد الدولة والجيش بقدراتهما الحالية
والحالة الوحيدة التي شهدت احتكاكاً مباشراً كانت في 19 كانون الثاني 2025، حين منع عناصر من الجيش قوة معادية من تخطّي حاجزهم، ما عكس محاولتهم فرض السيادة ضمن الحدود المتاحة لهم.
أثبتت التجربة العملية أن التزام حزب الله بالهدنة وانسحابه إلى شمال الليطاني فتح المجال أمام إسرائيل لتحقيق ما لم تستطع تحقيقه تحت النيران، أي إن موازين الردع تغيّرت سلباً لمصلحة العدو عندما أصبح قرار الحرب والسلم حصرياً بيد الدولة والجيش بقدراتهما الحالية.
وبيّنت الوقائع الميدانية أن اتفاق وقف إطلاق النار لم يؤسس سلاماً مستداماً بقدر ما أعاد تموضع أطراف الصراع وفق شروط جديدة.
فقد استغلت إسرائيل الفرصة لتحقيق مكاسب عسكرية وسياسية، بدءاً من تموضعها داخل الأراضي اللبنانية، وصولاً إلى فرض معادلة الضغط المستمر على حزب الله والحكومة معاً، من دون أن تظهر أي احترام حقيقي لسيادة لبنان أو لنص الاتفاق.
في المقابل، وجد لبنان نفسه أمام معضلة سيادية. فالحكومة أعلنت أنها صاحبة القرار والحرب والسلم، ولكنها عملياً عاجزة عن وقف الخروق الإسرائيلية أو استرجاع الأراضي المحتلة، ولجأت إلى الوساطة الدولية والشكاوى التي أثبتت التجارب أنها بلا جدوى.
أما حزب الله، فاختار الانكفاء شمال الليطاني لتجنّب تصعيد أكبر، ولكنه يعتبر هذا الانكفاء اختباراً عملياً يثبت صواب تمسكه بسلاح الردع، إذ إن الفراغ الذي تركه جنوباً استغلّه العدو ليملأه بدباباته وطائراته، بدلاً من الدولة.
وهكذا، تستمر الإشكالية اللبنانية الداخلية بلا حسم: سيادة منقوصة تحت تهديد إسرائيلي دائم، مقابل هجمة ممنهجة على سلاح المقاومة بوصفه «خارج الشرعية».