جوزف القصيفي نقيب محرري الصحافة
لا تصادف مارونياً يتعاطى الشأن العام، أو يراقب الأوضاع في بلاده من موقع الشاهد، أو المتابع المهتم، من دون أن يكون له أي دور مباشر أو غير مباشر فيها،إلّا ويتحدث بحسرة تخالطها النقمة على الحال التي بلغتها طائفته. فالطائفة المارونية هي طائفة مؤسسة للبنان الكبير الذي أطلق فكرته البطريرك الياس الحويك في العام 1920.
تعلّق الموارنة بهذه الدولة، واعتبروها قمة إنجازاتهم عبر تاريخهم النضالي الطويل، وثمرة التضحيات الكبيرة التي بذلوها بقيادة بطاركتهم وإكليروسهم ورهبانهم منذ القرن السابع للميلاد. لكن هذا الإرث الذي تهادى اليهم منذ مطالع عشرينيات القرن المنصرم، وهم ما زالوا يبحثون عن رميم الذين قضوا في المجاعة التي فتكت بهم في الحرب الكونية الأولى، ويرممون خرائب منازلهم، ويحيون أرضهم المجدبة بفعل قوافل الجراد التي أتت على أخضرها واليابس، لم يحسنوا المحافظة عليها، ولم يتمكنوا من ابتناء مناعة تحصّنهم أمام تقلّبات السياسات الدولية والإقليمية وتموجاتها وتداعياتها. وقد يطول الشرح إذا توقفنا عند الأسباب التي أفضت بهم إلى الوضع الراهن، ولكن يمكن إختصارها بقصور الرؤية الاستراتيجية لدى قياداتهم، وعدم التفريق بين ما هو مصيري وما هو عرضي، وغالباً ما كان يُقدّم الثاني على الاول على طريقة «نكاية بجاري، بحرق شروالي». وقد دخلوا في حروب إلغاء وحذف بين بعضهم البعض أفقدتهم كل عناصر القوة، وأضعفتهم إلى حدّ يقارب التهميش، وذلك على رغم من احتفاظهم بمواقع أساسية ومفتاحية في الدولة بدءاً من رئاسة الجمهورية.
وللموارنة تأثيرهم المباشر على المشهد المسيحي العام في لبنان. المسيحيون يعترفون بأنّ السبب الرئيسي لتراجع دورهم يعود إلى ضعف الطائفة الأكبر عدداً، والأكثر انتشاراً، والأوسع نفوذاً. والحقيقة أنّ المسيحيين عموماً والموارنة خصوصاً الذين كانوا يتميزون بانتشاريتهم على امتداد الجغرافيا اللبنانية، باتوا يفتقدون إلى هذه الميزة بفعل نزوح أبناء المناطق النائية جنوباً، شرقاً، شمالاً، وحتى جبلاً إلى مناطق العمق المسيحي. وذلك عدا الهجرة التي تبتلع شبابهم. وإذا القينا نظرة واقعية وحسابية نجد أنّ الانتشارية العقارية لدى المسيحيين في كل لبنان هي أكبر من الانتشارية السكانية، الأمر الذي جعل الأزمة الديموغرافية أزمة وجودية. وحتى الساعة لا يبدو أنّ ثمة من اتعظ، خصوصاً أنّ حجم الخطورة ليس مجهولاً لدى القيّمين على الطائفة. ويفتقر الموارنة إلى:
- مرجعية روحية - علمانية نخبوية محايدة، تناط بها مراقبة الوضع المسيحي من منظار وطني ووضع التقديرات انطلاقاً من ثوابت المصلحة اللبنانية العليا.
- مقاربة واضحة للمشكلات التي تتهدّد الوجود المسيحي في لبنان.
- خطة إجتماعية متكاملة تبدأ بالسكن والتعليم والصحة. إضافة إلى خطة إنجابية.
- إعادة تنظيم الإنتشار المسيحي، خصوصاً الماروني، وتثمير طاقاته الهائلة في وجوه إنتاجية تساعد على تجذير الناس في أرضهم.
- إحترام التعددية السياسية داخل الصف المسيحي، والحق في الاختلاف ضمن ضوابط معينة، في مقدّمها عدم اللجوء إلى القوة والعنف لحل الخلاف، والإقلاع عن خطاب الشيطنة والتخوين.
إنّ الموارنة في لبنان (وضمناً المسيحيين، لأنّ الموارنة هم الطرف الأقوى والأكثر نفوذاً وحضوراً بينهم)، مدعوون لكي يستمر دورهم فاعلاً وناشطاً، إلى التنبّه للآتي:
- هويتهم المشرقية والعربية التي تعزز دورهم في محيطهم، على رغم الكوارث التي حلّت بمسيحيي العراق بسبب الغزو الأميركي لهذا البلد وما خلّفه من تداعيات دفع ثمنها الكلدان، الاشوريون، السريان، وسائر الطوائف المسيحية، والأقليات، من دمهم ووجودهم الذي انحسر كثيراً، وهو على طريق الاضمحلال. وها هو الخطر نفسه يدقّ أبواب سوريا مع تفلّت التنظيمات المتطرفة وعجز الرئيس الانتقالي أحمد الشرع عن وضع حدّ لأعمال العنف والتهجير التي تُمارس في حق المسيحيين والعلويين والدروز والشيعة، وحتى السنّة المعتدلين. لا يستطيع المسيحيون في لبنان، وخصوصاً الموارنة، التنصّل من مسؤوليتهم حيال إخوتهم في الدين في بلدان المشرق العربي. فرؤساء كنائسهم، أو أكثريتها، هم بطاركة انطاكيا وسائر المشرق، ومن هنا تتجلّى مسؤوليتهم في إطار أوسع من تخوم لبنان وحدوده.
- إنّ لبنان هو وطن رسالة، وإنّ التخلّي عن هذا الشعار يُعدّ تنكّراً وجدانياً، وأدبياً للخط الذي رسمه البابا القديس يوحنا بولس الثاني لوطن الأرز. لأنّ نقيض هذا التوصيف هو لبنان اللامستقر، الواقف دائماً على فوهة بركان.
- الالتزام بمشروع الحويك: لبنان الواحد، العيش الواحد في وطن واحد موحّد، بصرف النظر عن نظام الحكم، وشكله. وأي إخلال بهذا الالتزام ستكون كلفته باهظة الثمن. إنّ الموارنة الذين رأى فيهم البعض «ملح لبنان» هم أمام تحدٍ سيتعيّن عليهم مواجهته لتحديد بوصلة غدهم، فلا يدعوا «محدلة» التطورات والتقلّبات تقضي على أي بارقة أمل بالمستقبل.