طوائفه وطنية ودينية: لبنان لا يُضمّ ولا يُسلخ!



جوزف القصيفي نقيب محرري الصحافة


لا يبدو الكلام الذي نُسب إلى قناة i24news الإسرائيلية حول مفاوضات التطبيع بين دمشق وتل أبيب، واشتراط الجولاني السيطرة على طرابلس العاصمة الثانية للبنان وثلث الجولان، واقعياً ومنطقياً، أقلّه بالنسبة إلى وطن الأرز، لأنّه يتنافى مع قواعد القانون الدولي (ولو أنّه يُنتهَك بفجاجة يومياً من الكيان الصهيوني على امتداد منطقة الشرق الأوسط)، وميثاق جامعة الدول العربية، والدستور اللبناني الذي يُشير تفصيلاً إلى الحدود الجغرافية للبنان، ويحظر التنازل عن أي جزء منها، إلّا إذا اقتضت إرادة اللبنانيِّين الجامعة إحداث أي تعديل في جغرافيّته بطريقة دستورية، سواء في المجلس النيابي أو عبر استفتاء، على أنّ هذا الخيار أو الاحتمال مستبعد تماماً، أو إذا وقع احتلال أدّى إلى سلخ مناطق منه وإلحاقها بدولة ثانية بفعل القوّة القاهرة، وهو ما يعطي شرعية لأي لبناني من أي منطقة أو طائفة لمقاومة المحتل أو أي سلطة ينصّبها بالأسلوب الذي يراه مناسباً.

حتى العام 1943، عام الاستقلال، كانت فئات لبنانية واسعة تتقبّل بصعوبة فكرة قيام «دولة لبنان الكبير»، واعتبرت أنّها صنيعة الاستعمار، وسُلخت عن سوريا بضغط منه، وبعد معركة الاستقلال وجلاء آخر جندي أجنبي عنه بعد ثلاث سنوات من تحققه، وجد المعترضون أنفسهم أمام واقع جديد يحتّم عليهم سلوكاً مغايراً لما مارسوه في بدايات إعلان الدولة. لكن ذلك لم يمنع التماهي وتجربة جمال عبد الناصر مع ولادة الجمهورية العربية المتحدة في 22 شباط 1958، التي لفظت أنفاسها في انقلاب 28 أيلول 1961 في سوريا، الذي أعاد العمل بصيغة الجمهورية العربية السورية، ومع الثورة الفلسطينية على رغم من كل تجاوزات فصائلها منذ العام 1969 إلى العام 1975، عندما بدأت الحرب فيه وعليه، وصولاً إلى العام 1982، عام الاجتياح الإسرائيلي، وما بعده من الأعوام التي شهدت حروباً متنقلة ومروّعة. جاء «إتفاق الطائف» ليرسم خطاً فاصلاً بين ما قبل وما بعد:

- لبنان وطن نهائي لكل أبنائه.

- لا تجزئة، لا تقسيم ولا توطين.

- إعتماد المناصفة وتجاوز العدّ.

ومن هنا، فإنّ أي محاولة لضمّ طرابلس أو عكار في مقايضة مع الجولان لن تبصر النور، لأنّ أحداً في هاتَين المنطقتَين، وخصوصاً أبناء الطائفة السنّية فيهما، وهم في صلب نسيج المجتمع اللبناني، وأنّ نسبة المتطرّفين في صفوفهم ضئيلة وغير قادرة على إحداث تغيير بنيَوي يطاول اتجاهات هذه الطائفة الكبرى التي تندرج تحت عناوين الالتزام بوحدة الأرض والشعب والاعتدال، والعيش الواحد في ظلال سقف الوطن الموحّد. وإنّ طرابلس قد أعطت لبنان خيرة سياسيِّيه ورؤساء حكوماته منذ ما قبل الاستقلال إلى يومنا هذا، عدا النواب والوزراء والقادة العسكريِّين الكبار ونخبة من المديرين العامّين، والصناعيِّين ورجال المال والأعمال، والأساتذة الجامعيِّين والمنتسبين إلى نقابات المهن الحرة. وبالتالي، فإنّ «بخششة» هذه المنطقة من لبنان على طاولة تقاسم المصالح الدولية والإقليمية المتقاطعة، هي «مزحة سمجة» غير مقبولة، ولن تجد رواجاً لها لدى الغالبية الساحقة من أبنائها. أمّا عكار فهي «دندانة» الجيش اللبناني، وقدّمت منذ نشوء الدولة في مطالع عشرينات القرن المنصرم إلى اليوم، آلاف الشهداء الذين سقطوا في غير منطقة من مناطقها دفاعاً عن سيادة لبنان واستقلاله في مواجهة اعتداءات إسرائيل، والجيش السوري في حقب مختلفة، والإرهاب التكفيري، من أجل توطيد الاستقرار وتعزيز السيادة الوطنية. وإنّ المراهنة الإسرائيلية الخبيثة على ولاء فئة لبنانية صحيحة الانتماء إلى وطنها، شديدة التعلّق بمشروع الدولة، هو مجرّد « فلاحة» في البحر. ولا معطيات تشير إلى أنّ أحمد الشرع الذي لم يُثبِت سلطته على امتداد جغرافية بلاده المتنامية والتي تنوء بكمٍ هائل من المشكلات، يسعى إلى ذلك حالياً لعجزه عن الإمساك بالأرض. ولو أنّه لا يمانع في أن تكون له كلمة فصل ويَد طولى في الشؤون اللبنانية الداخلية، وإن بدرجة أقل ممّا كان يمارسه النظام السوري السابق مباشرة أو من تحت الطاولة ووراء الستارة.

قد لا يكون موضوع «تلزيم» لبنان إلى سوريا بعد استتباب الأمن فيها مجرّد فكرة، لأنّ ثمة مَن في الداخل والخارج يرغب في استنساخ مرحلة الوصاية وإسقاطها على الواقع اللبناني الراهن بوجوه وتسمِيات شتى. لكن ذلك بعيد المنال، بل على درجة كبيرة من الاستحالة. فلا الحُكم اللبناني يرضى بذلك تحت أي مسوّغ أو ذريعة، ولا الشعب بأكثريّته الطاغية مستعد للقبول بصيغة: «نيو وصاية سورية» عفّ عليها الزمن ووئدت إلى الأبد. إنّ لبنان ليس في جاهزية قبول أي طرح ينتقص من سيادته، وهو أمام امتحان صعب في ما يتعلق بمصير مزارع شبعا التي تحاول بعض الجهات الدولية والإقليمية إنكار لبنانيّتها الواضحة وضوح الوثائق الدامغة التي يحتفظ بها أصحاب الأرض اللبنانيّون من مختلف الطوائف. وإنّ السجلّات العقارية في مدينة صيدا شاهدة على ذلك. من هنا يصعب كثيراً، لا بل يستحيل أن تفلح محاولات ضمّ لبنان أو سلخه تحت أي ذريعة. وهناك إمكانية احتلال لأجزاء منه إذا قرّرت إسرائيل مواصلة اعتداءاتها لتزنير حدودها مع لبنان بمنطقة محروقة، «محلوقة» لا أثر فيها للحياة. وهذا ما يعطي الحق في استمرار المقاومة الحالية أو أي مقاومة يمكن أن تستجد، إذا لم تُلزَم إسرائيل باحترام القرارات الدولية والانسحاب من لبنان ووقف انتهاكاتها لسيادته، واعتداءاتها التي لا تستثني البشر 
والحجر في آنٍ.