نداء الوطن
مقابل 300 صرّاف مرخّص في لبنان كان هناك بعد استفحال الأزمة 3000 صرّاف غير مرخّص، بالإضافة إلى عدم التزام بعض شركات تحويل الأموال ببنود الرخص وفقًا للقوانين. وفي الشقّ التجاري تبرز المصانع وشركات الإنترنت والاتصالات غير المرخّصة التي يفوق عددها الشرعية منها. وغيرها من أعمال التهريب عبر الحدود والتهرّب من تسديد الرسوم الجمركية والضرائب بمليارات الدولارات. كلّ تلك المخالفات تشكّل محور ما يسمّى اقتصاد الظلّ الذي بلغ حجمه 4.6 مليارات دولار، وأدّى إلى إدراج لبنان على اللائحة الرمادية. كيف يؤثّر ذلك سلبًا على مالية الدولة والاقتصاد الكلّي؟
يحتلّ اقتصاد الظلّ أو ما يسمى الاقتصاد الموازي أو غير الشرعي الذي تمدّد في لبنان منذ انطلاق شرارة الأزمة المالية مساحة متقدّمة من الاقتصاد الكلّي في لبنان. فهو شهد توسّعًا متسارعًا منذ العام 2019 لدرجة جعلت من لبنان يتفوّق بأشواط على دول عالمية. استنادًا إلى المسح العالمي للعام 2025 الذي أجرته شركة «إرنست أند يانغ»، سجّل حجم اقتصاد الظلّ في لبنان نسبة 19.6 % من الناتج المحلي الإجمالي للعام 2023 مقارنة بالمعدّل العالمي البالغ 11.8 % ، مرتفعًا بنسبة 1.9 % من الناتج بين 2019 و2023. كيف تترجم تداعيات هذا التقدّم السلبي على الاقتصاد وعلى مداخيل الدولة؟
حجم الاقتصاد غير الشرعي
من حيث القيمة الاسمية، بلغ حجم اقتصاد الظلّ في لبنان، أو كما يسمّيه البعض الاقتصاد الموازي أو غير الشرعي، ما قيمته 4.6 مليار دولار استنادًا إلى الناتج المحلي الإجمالي الإسمي البالغ 23.6 مليار دولار في العام 2023 وفقًا لتقديرات صندوق النقد الدولي. وفي هذا الإطار عرّفت شركة الاستشارت والتدقيق الدولية EY في التقرير الصادر عنها ويشمل131 دولة في العالم اقتصاد الظلّ بأنه الاقتصاد غير المرصود أو غير المسجّل، والذي يشمل النشاط الاقتصادي غير المبلّغ عنه للكيانات الاقتصادية المسجّلة وغير المسجّلة.
تلك المعاملات أو العمليات التجارية تتم من دون فواتير أو إيصالات مالية، فتبقى غير موثّقة وغير خاضعة للضرائب ما يفوّت على الدولة عائدات كبيرة هي اليوم في أمسّ الحاجة إليها في ظلّ النفقات المتزايدة والتي تسعى لتوفير إيراداتها عبر قروض وزيادة في الضرائب على المواطنين وعلى الاقتصاد الشرعي.
وفي هذا السياق، يقول الباحث الاقتصادي والخبير المالي نسيب غبريل لـ «نداء الوطن» إن «اقتصاد الظلّ هو سبب وضع لبنان على اللائحة الرمادية من مجموعة العمل المالية في تشرين الأول 2024، بعد تقصيره في مكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب. وهو سبب أيضًا في إدراج الاتحاد الأوروبي لبنان على لائحة الدول المرتفعة المخاطر مع 9 دول أخرى في 10 حزيران 2025 مرتكزًا على مجموعة العمل المالي «فاتف» وتقييمه الخاص المستقل ومنهجيته الخاصة».
تحسّن في التزام لبنان
ولكن بعد الاتفاق بين السلطات اللبنانية ومجموعة FATF حول الإجراءات العشرة لسد الثغرات في مكافحة لبنان تبييض الأموال وتمويل الإرهاب، تحسّن التزام لبنان بمكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب. ومن بين تلك الإجراءات يبرز بند الحدّ من الاقتصاد غير الشرعي عن معالجة موضوع الجمعيات غير الحكومية عالية المخاطر، إنشاء نظام للشركات لمكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب، إجراء تحقيقات وإصدار أحكام قضائية، مصادرة أصول مشتبه في مصدرها، مصادرة العملات والأحجار الكريمة المهربة عبر الحدود... وفي الشقّ التجاري ضبط المصانع وشركات الإنترنت والاتصالات غير المرخّصة التي يفوق عددها الشرعية منها.
تداعيات اقتصاد الظلّ
اقتصاد الظلّ كما جاء في تقرير «ارنست أند يانغ» يساهم في الفجوة الضريبية، وهي الفرق بين إجمالي الضرائب المستحقة على الأفراد والشركات لخزينة الدولة وما يتم دفعه بالفعل من قبل الملتزمين بالقوانين الضريبية. فالتأثير السلبي لاقتصاد الظلّ يمتدّ إلى ما هو أبعد من الفجوة الضريبية، نظرًا لتأثيراته السلبية طويلة الأجل، مثل انخفاض إيرادات الحكومة، وتداعياته على المالية العامة، وتراجع جودة وكمية الخدمات العامة، وتشوه المنافسة، وردع الاستثمار والنمو الاقتصادي، فضلاً عن تدهور وضع المؤسسات الاقتصادية التي تلتزم بالقوانين، وتراجع الوعي الاجتماعي.
وأشار التقرير أيضًا إلى أن نقص البيانات، وضعف تطبيق القانون، وانخفاض مستوى الحوكمة في القطاع العام، وارتفاع الأعباء الضريبية، والصعوبات الاقتصادية تساهم في ارتفاع حجم اقتصاد الظلّ. وقد غطى المسح 97.2 % من الناتج المحلي الإجمالي العالمي و95.6 % من سكان العالم.
الإجراءات الوقائية
تشمل الأدوات اللازمة للحدّ من حجم اقتصاد الظلّ تعزيز ثقة دافعي الضرائب في الإدارة العامة والنظام الضريبي، مواجهة تحدّيات الأعمال غير المرخّصة وغير المشروعة، الاستفادة المثلى من التكنولوجيا المتاحة، الاستفادة من المصادر الخارجية للبيانات لتحقيق فوائد استراتيجية، تعزيز الاستراتيجيات الحكومية الشاملة، والتعاون الدولي.
فمنذ تشكيل الحكومة، يوضح غبريل، «تمّ وضع خريطة طريق قوامها تشكيل لجان من قبل بعض الوزارات لتنفيذ الإجراءات المطلوبة والمذكورة آنفًا لرفع لبنان عن اللائحة الرمادية، لجنة وزارة العدل انتهت من تقريرها ولكن لا نعلم ماذا حصل في مسألة تطبيق الخطة التي قدمتها اللجنة» .
إلى ذلك يُذكر من خلال الإعلام إجراء مصادرات لمبالغ مالية ضخمة ترد عبر المعابر بطريقة مشبوهة وكان آخرها عبر مطار بيروت.
فضلاً عن إقدام القوى الأمنية على إقفال معابر غير شرعية على الحدود اللبنانية السورية وإقفال مصانع كبتاغون وضبط ممنوعات معدّة للتصدير، كلها إجراءات تضع لبنان في المسار الصحيح.
وتلك الإجراءات المحدودة لا بدّ من أن تواكبها إصلاحات كاملة وشاملة بشكل أسرع ما يعجّل دورة الاقتصاد، كما يوضح غبريل، الذي شدّد في المقابل على «ضرورة التأكيد على هوية الاقتصاد اللبناني، باعتباره اقتصادًا حرًّا ليبراليًا منفتحًا على العالم خصوصًا العربي، عموده الفقري القطاع الخاص الذي يخلق فرص عمل ويؤسس لمشاريع، يكمله قطاع عام منتج مهمته تطبيق القوانين والحفاظ على المنافسة ورفع مستوى تنافسية الاقتصاد اللبناني وخلق بيئة استثمارية ومكافحة تبييض الأموال واقتصاد الظلّ، وإعادة انخراط الاقتصاد والقطاع المصرفي اللبناني في النظام المالي العالمي.
إذًا، بما أن وضعنا الأمني والسياسي حاليًا أفضل بكثير من العام 2024 (عام الحرب الإسرائيلية على «حزب الله»)، أمامنا فرصة كما قال غبريل «عابرة للأجيال، لن تتكرّر يجب قطفها من المسؤولين وتلقّفها خصوصًا أن الموفد الأميركي توم براك ذكّرنا بها خلال زيارته الأسبوع المنصرم واختصر المشهدية بالقول: إن المنطقة تتحرك بسرعة الصوت، إذا لم يواكب لبنان هذا التحرّك ستنساه الدول الأوروبية والدول الأخرى».