لماذا هي الحرب الأولى من نوعها في التاريخ؟


Achrafieh News 📰

وكيف جرى التحول الدراماتيكي في استراتيجية الحرب الإسرائيلية في المنطقة؟
أي إشارات ترسلها هذه الحرب للعالم؟ ولماذا يقلق ذلك دولاً بعيدة؟
وماذا قد ينتظر #سوريا ، الأردن ومصر، بعد #غزة و #لبنان ؟
1
شيءٌ من حروب المستقبل، ذلك الذي حول المنطقة إلى مختبر تجارب لحرب المستقبل.
ما أظهرته إسرائيل هنا كان عيّنةً من الحرب الأميركية المستقبلية التي أدخلتها واشنطن دائرة التشغيل حين شعرت بأنها المرة الأولى التي يوضع فيها على المحك وجودها في المنطقة، ووجود إسرائيل، فما معالمها؟

2
لم تكشف الحرب أسرارها الكاملة بعد، لكن ما جرى
في لبنان وغزة أيقظ إشاراته الخطرة مجالس الأمن القومي حول العالم. خصوصاً أن التهديد بتوسيع النموذج يطال الآن دولاً، وتبتز فيه دولٌ: إيران، اليمن، الأردن ومصر، وغيرها من الدول التي تُطلب موافقتها لاستكمال نتائج التقسيمة الكبرى الجديدة في الشرق الأوسط، وتحديداً في بنودٍ ثلاثة:
• توسّع إسرائيل في الجغرافيا والاستيطان.
• القضاء على حركات المقاومة.
• إخراج الفلسطينيين من ما تبقى من أرضهم في غزة والضفة الغربية، وتهديد دول الجوار بدخولها في حال لم توافق.
نبدأ من اختلاف هذه الحرب عن كل ما شهده وشهده العالم

3
ليس من المبالغة في شيء القول إنها أولى التطبيقات الميدانية لحروب المستقبل. قوامها أسلحة وتقنيات جديدة كلياً، وأنماط هجينة مختلفة في التعامل مع المدنيين، المجتمع الدولي، الأمم المتحدة، القانون الدولي، وحدود ما كان ممنوعاً يوماً ما، وما بات متاحاً من الممارسات مهما وصلت من التوحش، وحتى مستوى الإبادة.
مع تركيزٍ إسرائيلي على النتائج الاستراتيجية الكبرى للحرب، وتنفيذ المشروع التوسعي التاريخي، ودفعها في سبيله بقابليةٍ جديدة تماماً عليها، وعلى القدرة على تحمل الحرب الطويلة، وأعداد القتلى الكثر، بل وقتل بعضهم بنيرانها الخاصة عندما يكون ذلك مفيداً.
ثم تسعى لتطوير قدراتها بشكل يتجاوز الحرب التقليدية، مع التركيز على الابتكار والردع طويل الأمد.
فما هو المزيج الحربي الجديد؟ وكيف أُريدَ له صعق العالم ليرضى بحدودٍ غير مسبوقة للجريمة؟

4
أولاً: تفخيخ أجهزة اتصال مدنية
استخدام إسرائيل أجهزة متفجرة في معدات الاتصال "البيجرز" في 17 أيلول-سبتمبر ضد حزب الله كان منعطفاً حقيقيةً في ما يمكن للحرب المستقبلية أن تذهب إليه.
حدثٌ صاعق لأجهزة الأمن حول العالم، ليس لارتباطهم بالقوة المستهدفة، أو لوجود لاحتمال استدافهم من قبل إسرائيل، بل لكشفه احتمال استخدام هذا التكتيك من قبل أي قوة معادية لهم. والجميع في العالم لديه صراعاته الخاصة ومخاوفه تجاه أعدائه.
لكنه أيضاً أبرز تحدياً جديداً لمنتجي التكنولوجيا، حيث برزت خطورة هذا الاستخدام على تجارة التكنولوجيا وسلاسل إمدادها، وإمكانية وصولها إلى الدول، أجهزة الاستخبارات الخارجية ومنظمات الجريمة المنظمة.
وهناك ناحية شديدة الخطورة في الأمر

5
هذه الناحية مرتبطة بإمكانية أن تشن دولةٌ، أو منظمة جريمة، هجوماً مفاجئاً على منظومة قيادة دولة ما، يهدف إلى شلّ قدراتها وتحييد منظومة صناعة القرار فيها على المستوى السياسي، ومنظومة القيادة والسيطرة على المستوى العسكري، وبالتالي تحسم نتيجة مواجهة طويلة في لحظةٍ واحدة.
أبعد من ذلك، برزت مع هذا العملية إمكانية استهداف الشركات الكبرى بعضها البعض في عملياتٍ مشابهة، مع تغيير طبيعة التفجير مثلاً إلى طبيعة أخرى تعطيلية في سياق المنافسة على الأسواق والحصص فيها. تخيّل مثلاً أن تقوم شركة تصنّع أجهزة معينة بالتدخل في سلسلة إمداد شركة أخرى وتفخيخ بعض أجهزتها، ثم تفجيرها (ولو بصورة بسيطة) بالمستخدمين ما يؤدي إلى انهيار سمعة المنتج!
أو أن يتم التجسس عليك من جهاز التلفاز الخاص بك (حجم الجهاز قابل لذرع منصة تجسس كبيرة)
باختصار، يمكن القول إن هذه العملية كشفت أن أي منظومة اتصال على الكوكب يمكن أن تكون مكشوفةً أمام الجريمة.
ماذا بعد؟

6
ثانياً: دمج الذكاء الاصطناعي في العمليات العسكرية
شهدت هذه الحرب تكاملًا كبيرًا لتقنيات الذكاء الاصطناعي في التخطيط والتنفيذ العسكري الإسرائيلي. حيث استخدم الذكاء الاصطناعي لتحليل البيانات الميدانية والتنبؤ بالتحركات العسكرية للمقاومة، وعرقلة عملية الترميم خلال الحرب، وهذا ما أعطى إسرائيل تفوقاً في تحليل البيانات والاستجابة بشكلٍ أسرع، ووفر لها بنك أهدافٍ واسع ومتجدد.
هكذا تكون حرب المستقبل المبنية على البيانات والتحليل الذكي ودمج المسارات بدأت تكشف عن ملامحها، وعن أن عدد القوى الجاهزة لخوضها لايزال محدوداً.
خصوصاً أن هذه الوسيلة الجديد ضربت تكتيكات التخفي وكسر الأنماط، وكشفت عن صعوبة بالغة لتأسيس عملٍ سري مستقبلاً، وهذا يتناقض مع مصالح قوى التحرر عبر العالم التي تخوض مواجهاتٍ غير متكافئة.
أما ثالثاً

7
ثالثاً: الحرب الإلكترونية
هذا التكتيك ليس جديداً تماماً، لكنه يصبح أكثر فاعلية بدمجه مع التكتيكات الأخرى، ومع التطور المتسارع جداً في السنوات الأخيرة. استهدفت إسرائيل سابقاً البرنامج النووي الإيراني بهذه الوسيلة، وحققت نتائج. لكنها في الحرب على لبنان وغزة نفذت هجمات إلكترونية أكثر فتكاً أدّت وفق معلوماتٍ منشورة إلى الإضرار منظومات الاتصال وبتشغيل أسلحةٍ محددة كان يمكن أن تحدث فارقاً نوعياً في المواجهة.
لكن ذلك يبرز أيضاً خطراً على العالم كله، إذ لم تكتفِ هذه الهجمات بضرب البنى العسكرية، بل استهدفت قطاعاتٍ مدنية. والأخطر أن الهجمات الإلكترونية مختلفة عن تلك العسكرية بأنها غير واضحةٍ بالنسبة للشعوب، وتحتاج إلى تحقيقاتٍ تقنية دقيقة تستلزم وقتاً ودلائل مضنية للتحقق منها، وبالتالي فإن متابعتها قانوناً تكون أكثر صعوبة.
وهذا يقود إلى التفكير باحتمال استهداف دولٍ أخرى بعيدة أو قريبة، بحربٍ من هذا النوع، من دون إعلان المسؤولية عنها.
وهذا يقودنا إلى النقطة الرابعة

8
رابعاً: الحرب النفسية
في هذا المجال استخدمت إسرائيل أسلوباً دعائياً شديد الشراسة وواسع الحيلة في التعاطي مع جماهير أصحاب الأرض، فبثت باتجاهٍ أول محتوى يضخّم قدرات المقاومة وبالتالي خطرها عليه، وهذا كان موجهاً إلى الداخل الإسرائيلي وإلى المجتمعات الغربية بصورةٍ أساسية لاستنهاضها في معركة الدفاع "الحضارية" (كما دأب نتنياهو على وصفها)، وجزئياً باتجاه جماهير الطرف الآخر لتضخيم التوقعات منه، وجعله أقل قدرة على تقبل الخسائر (وهي كانت نقطة قوته الدائمة).
أما الاتجاه الآخر، فكان مصوباً نحو هذه الجماهير (المناصرة لفلسطين) واستخدمت هنا سياسة القيود على النشر التي لا تمدهم من صور الحرب إلا بما يتناسب مع السردية الإسرائيلية.
وهنا أمثلة على ذلك:

9
- مشاهد اعتراض منظمة القبة للصواريخ من دون إظهار أثر الإصابات الحقيقية التي تلقتها إسرائيل.
- سقوط الصواريخ في مناطق مفتوحة (بشكلٍ يوحي بأن الضربات الصاروخية غير فاعلة).
- إخفاء عدد القتلى الإسرائيليين، وهو ما لم يكشف عنه حقيقةً بعد (والقصد إظهار التباين الصارخ بين الخسائر في صفوف الفلسطينيين واللبنانيين من جهة، والإسرائليين من جهة أخرى).
- استخدام التضليل بخصوص الخطوة التالية، وهذا أفاد إسرائيل في إحداث تحولٍ كبير خلال الصيف، حيث أخفى امتلاكه القدرة على ضرب قيادات الصفوف الأولى في المقاومة، والتي على أساسها انقلبت احتمالات الحرب من استبعادها بدرجةٍ كبيرة، إلى حتميتها مع توفر إمكانية استهداف هؤلاء...
لكن هناك أيضاً شيءٌ آخر شديد الأهمية

10
وهو الكذب بخصوص الحقائق الميدانية، من خلال تصوير الحرب على أنها استجابة لهجوم جماعاتٍ "إرهابية" على دولةٍ سيدة. وهذا تم ترويجه لإحداث قطع في الذاكرة مع الأسباب الحقيقية للصراع، وهي الاحتلال والاستيلاء على الأرض وطرد شعبها، وبالتالي هذه السياسة ترمي إلى ضرب وعي شعوب العالم بالتاريخ، وتصطنع تاريخاً جديداً يتم ترويجه عبر جيوشٍ إلكترونية ضخمة بلغاتٍ عدة، وإعلامية في مؤسسات الإعلام التقليدي الدولية (وقد رأينا العجب فيها)، بالإضافة إلى مسؤولين رسميين في دولٍ ثالثة تم تجنيدهم في سياق الحرب لتعميم الرواية الإسرائيلية.
الهدف من ذلك كله ليس إقناع العالم بتلك الرواية فحسب، إنما ضرب ثقة الجماهير العربية والإسلامية تحديداً بعدالة قضيتها وزرع الشكوك بشأن كفاءة القيادات التي تمثل مشروعها.
وهنا بعض الأمثلة على ذلك:

11
- التركيز على قضايا خلافية في مجتمعات العدو، مثل استحضار الاختلافات المذهبية واستعادة محطاتها التاريخية لمنع توحدها حول قضاياها الكبرى الجامعة.
- استبعاد مساحات اللقاء الكبرى بين هذه المجتمعات (وهي تشترك في معظم تطلعاتها) في مقابل التركيز مساحات الاشتباك (وهي تختلف في قضايا أقل أهمية).
- الفصل بين القيادات والجماهير من خلال بث دعاية تقول إن القادة أثرياء ويتمتعون بحياتهم، في مقابل بؤس الجماهير وتحملهم للكلف الكبرى للصراع.
- إختباء القادة في مقابل انكشاف الجماهير.
- استحضار محطات فتنوية (اغتيال الحريري، الحرب في سوريا، الخلافات بين الأخوان والدول العربية، التنافس الإيراني العربي...)
أما خامساً

12
خامساً: الاستفادة من الأقمار الاصطناعية والتنسيق مع الحلفاء
وفّرت الأقمار الاصطناعية ومحطات الاتصال المتطورة في المسيرات الأميركية والقواعد القريبة أفضليةً حاسمة لإسرائيل في خوض هذه الحرب، ما أتاح لها مراقبة التحركات العسكرية للخصوم بدقة عالية. وقد ساهم ذلك في التخطيط وتنفيذ العمليات العسكرية بفعالية أكبر.
أيضاً أدى ذلك إلى خوض الحرب عبر أجهزة الكومبيوتر أولاً، ثم عبر كثافةٍ غير مسبوقة في النيران ثانياً. وهذه النقطة الأخيرة بالغة الأهمية. كيف؟

13
استخدمت إسرائيل جحيماً نارياً غير مسبوقٍ في تاريخ العالم ضد غزة ولبنان، وذلك برمي آلاف الأطنان من المتفجرات الذكية والغبية على أهداف محددة ومختارة، ولكن أيضاً على أهداف عمومية بحيث مارست القتل العمومي بهدف الإرهاب والصعق، لتجميد أي قدرةٍ لدى مجتمع "العدو" على التعامل مع حجم النيران.
وقد أدى ذلك إلى إبادةٍ حقيقية لم يشهد لها التاريخ مثيلاً، وكان استهداف الأماكن المدنية مفيداً لإسرائيل، في سياق التكتيك التالي:

14
سادساً: الحرب بلا سقوف وقوانين كاختبارٍ للعالم
الجديد تماماً في هذه الحرب، كان تخطي أي اعتبارٍ للرأي العام العالمي حول الجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب، وأعداد الضحايا من المدنيين.
لقد كانت اختباراً حقيقياً لمدى مقاومة شعوب العالم لحربٍ منعدمة الحدود، حرب إبادةٍ كاملة المواصفات. وكانت النتيجة أن الوعي العالمي تقبّل رؤية عشرات الآلاف (العدد يقترب من مئة ألف شهيد) ولم يظهر مقاومةً متناسبة مع حجم الحدث.
وعلى الرغم من نشاط طلاب الجامعات، وتعبير الأغلبية العالمية من الدول والنخب عن استنكارهم لهذه الجريمة الكبرى، بقي الفعل محدوداً في أثره على مسار الحرب.
هذا قاد إسرائيل إلى تحقيق نجاحٍ قصير الأمد في صعق الوعي العالمي، وتثبيت حقيقةٍ جديدة، وهي أن العالم مستعد لتقبل حرب نووية بعيدة منه جغرافياً. لكن أيضاً من وجهة نظرٍ مقابلة، تبقى الآثار البعيدة لهذه التجربة غامضة، وربما تضرب أسس وجود إسرائيل.
سنعود إلى هذه النقطة لاحقاً، لكن قبل ذلك هناك وسائل أكثر تطوراً للهجوم والدفاع تم دمجها في هذه الحرب

15
سابعاً: المسيّرات والروبوتات
شهد هذا القطاع تطوراً كبيراً خلال هذه الحرب، إذ استخدمت إسرائيل الطائرات المسيّرة بشكل مكثف لجمع المعلومات الاستخباراتية وتنفيذ هجمات دقيقة، وهي التي صممت نظرياً لخفض الأضرار بين المدنيين، لكن إسرائيل استخدمتها للقتل العمومي للمدنيين في الكثير من الحالات وضرب أهداق محددة في حالاتٍ أخرى لخدمة غرض الصعق وبث الرعب. كما أدخلت إلى المعارك الذخائر الذكية التي أعطتها مرونةً مستجدة وغير مسبوقة في التعامل مع الأهداف، بالإضافة إلى إدخال الروبوتات البرية للاستطلاع والهجوم، والتي زُوّدت بأنظمة تصوير وتسليح خفيف للقيام بمهام الاستطلاع والهجوم في المناطق الحضرية والمعقدة.
وهناك أيضاً جانب آخر دفاعي، يظهر جانباً جديداً من حروب للمستقبل

16
ثامناً: من القبة الحديدية إلى الدفاع بالليزر
ساهم نظام القبة الحديدة في الحد من قدرة الصواريخ على الوصول إلى أهدافها، لكنه لم يكن ناجحاً بنسبةٍ عالية أمام الصواريخ الدقيقة والفرط صوتية، ولم يظهر هذا الفشل للمنظومة على حقيقته نظراً للقيود على النشر في الداخل الإسرائيلي.
لكن إسرائيل أعلنت عن نظامٍ جديد يناسب حروب المستقبل، وهو أولاً دمج الحرب الإلكترونية (تعطيل قدرات الإطلاق) وإنشاء نظام دفاعٍ جديد بالليزر "الشعاع الحديدي"، وهو مستوى جديد من الأنظمة الدفاعية الذي يسهم في خفض كلفة الصواريخ الاعتراضية وتحسين أداء المنظومة في أي حربٍ مستقبلية.
الرسالة هنا هي القول إن إسرائيل متفوقةٌ بما لا يدع مجالاً للمنافسة في هذا المجال، وإن تفوقها "لا يقهر"، الأمر الذي يقصد في جانب منه استعادة سمعة "الجيش الذي لا يقهر"، والتي ثبت خلال السنوات الماضية انهيارها.
لكن إسرائيل اعتمدت على سلاحٍ أكثر فتكاً، ويمكن اعتباره أقوى أسلحتها في هذه الحرب

18
تاسعاً: أقوى أسلحة إسرائيل هو تسامح العالم مع هذه المحطة الأولى من حروب المستقبل
على المدى القصير، نجحت إسرائيل في تطبيع العالم مع حربٍ تفوق نيرانها بأضعافٍ مضاعفة القنابل النووية على هيروشيما ونكاغازاكي.
وبدا أن السلاح الأقوى بيد إسرائيل هو التسامح العالمي مع ممارساتها، وقد ثبتت فكرة "اللاناس" (تحدث عنها تشومسكي كثيراً) وطبعت ضحاياها بها. بحيث يميّز الآخرون بين القتلى الذين يعتبرون من "الناس" (الغربيون والإسرائيليون...)، وبين "اللاناس" وهم الشعوب الأخرى التي لا تهم أعداد قتلاهم مهما بلغت، أو تنوعت بين شيوخٍ وأطفال ونساء ورجال.
وهناك أيضاً سلاحٌ لا تمتلكه أي دولةٍ أخرى في العام

19
عاشراً: السلاح الذي لا تمتلكه أي دولةٍ في العالم
وهو النجدة الأميركية غير المحدودة، بحيث لا يعود نافعاً الاستنزاف الاقتصادي (مع توفير الولايات المتحدة مساعدات تفوق بقيمتها ما تخسره إسرائيل في الحرب مهما اجتهدت القوى المحاربة لها في حصارها وإضعافها في هذا الميدان)، وأيضاً على المستوى العسكري، إذ تصل الجسور التسليحية المستمرة لتسد أي نقصٍ في المخزون حتى لو وصل إلى ملياراتٍ الدولارات في فترة زمنية محدودة.
وهذه فكرة مركزية في نقاش آثار هذه الحرب على المستوى العالمي.
كيف؟

20
أثبتت هذه الحرب قبول العالم بنسبةٍ عالية عدداً غير محدود من القتلى المدنيين، استهداف البنى التحتية المدنية، المستشفيات والكوادر الطبية والإسعافية، استهداف الأمم المتحدة وتنمزيف ميثاقها وتجاوز قراراتها الملزمة، قتل الصحفيين واستهداف مقرات وسائل الإعلام، استخدام المناطق الإنسانية كأفخاخ لتجميع المدنيين وقتلهم، تدمير دور العبادة، احتلال الأراضي استباقياً وقبوله كإجراء طبيعي والتطبيع مع فكرة الاستيطان في أي مكانٍ تصله أقدام الجنود الإسرائيليين (الجولان، غزة ، الضفة، القدس ولبنان. وربما أجزاء من مصر والأردن لاحقاً)، تثبيت فكرة أن إسرائيل فوق جميع دول العالم، باستثناء أميركا، وأنها في لحظة ما -عندما يكون الرئيس الأميركي ضعيفاً- مستعدة لتجاوز الإرادة الأميركية أيضاً.
وهذا يقود إلى تأسيس سابقةٍ كارثية على العالم أجمع، فما الدروس من هذه المحطة الأولى من حروب المستقبل؟

21
حادي عشر: الدروس الكبرى
يبدو الشرح هذا محبطاً على نحوٍ ما، لكنه يبرز إلى الواجهة قدرةً خارقة لشعوب المنطقة على الوقوف والصمود بوجه حربٍ لم يعرفها العالم من قبل، وقد شهدت الحرب في غزة ولبنان مقاومةً أسطوريةً في وجه ما سبق كله، وما خفي منه أعظم مما ظهر، نظراً لما أشرنا إليه من القيود والتضليل والتعتيم على خسائر إسرائيل.
ويقود ذلك إلى الواقعية الضرورية في التقدير الاستراتيجي. وتقدير قيمة ما تحقق على مستوى الوعي العام ورفض فكرة الاحتلال وتوقيع الاستسلام، وتعميم الحقائق حول هذا الصراع، والانتقال إلى مرحلة مخاطبة الأمة لذاتها وللعالم بلغة المستقبل، وبلغةٍ مفسرة لكل إنسانٍ بحسب موقعه وخلفيته.
ومن الدروس أيضاً
🔽🔽
22
أن إسرائيل تمكنت من الاستفراد بكل ساحةٍ على حدى، مستفيدةً من السياقات الداخلية المتفجرة في قلب كل واحدةٍ منها، وهي سياقات تستبطن ديناميات متناحرة تكتيكياً، بينما الرؤى الكبرى يفترض أن تكون متناغمة، حتى بين الدول المتنافسة في المنطقة.
كما استفادت إسرائيل من الفجوة الاستخبار والاستعلام الاستراتيجي، وهذا ما وفر له فرصة صنع انعطافةٍ مفاجئة في مسارٍ معلوم. لأننا إذا استبعدنا ارتدادات هذه الفجوة، فإن الحرب لم تكن لتحدث، وفق حسابات الاتجاهات العالمية وضرورات الصراع العالمي بين روسيا والصين والولايات المتحدة، ومستويات الصراع على النظام الدولي، وما يمكن للحرب في الشرق الأوسط أن تسهم فيه.
هكذا، لا يمكن مواجهة قوة من هذا المستوى مع إغفال السياقات الداخلية للدول، ولا يمكن مواجهتها بحركاتٍ محدودة القوة، وقد أثبتت هذه الحرب المستقبلية في نسختها التجريبية في الشرق الأوسط، ومن ضمنها أحداث سوريا، أن القوة الوحيدة اليوم القادرة على مواجهة الهيمنة الأميركية هي الصين، باستراتيجيتها الحالية.
ماذا بعد
23
في حرب المستقبل، الأولوية للتكنولوجيا، والبناء البشري الذي يوفي شروطها معنويٌ ومادي، حيث لا يمكن سد الفجوة في القدرات بجثامين الشهداء.
ثم إن هذه النسخة التجريبية من حروب المستقبل تبرز مخاطر على جميع دول وجيوش العالم، إذ لا يمكن ضمان وقوف أي جيشٍ في مواجهة هذا النوع من الحروب، ما لم تكن مستندةً إلى هذين الجانبين: القوة المعنوية والتجهيز المادي على أعلى مستوى في العالم.
والملاحظة الأهم هنا، أن هذه الفجوة تتسارع بتسارع التقدم التكنولوجي، ودخول الحاسبات الخارقة Super Computers، والجيل الجديد من الانترنت 6G، مجالات الحرب ومحددات القوة. وهو جيلٌ من نوعٍ جديد لا يشكل استمراراً في النوع لما لم يصلنا بعد من 5G.
أما الملاحظة الأخيرة

24
فهي أن الدول الواقعة في مجالٍ جغرافيٍ واحد لا يمكن لها أن تفكر في الأمن على أساس أنه أمن وطني معزول عن الجيران، حيث أن الأمن في العصر الجديد لا يتجزأ، ولا يمكن وقف تمدد المخاطر، كما لا يمكن وقف انتقال الريح من دولةٍ إلى أخرى.
وهذا يقود إلى ضروراتٍ في منطقتنا، تلزم مخططي الأمن القومي بأن يتطلعوا بمرونة إلى مسائل البقاء، فيتجاوزون أعباء الماضي وأثقال الذاكرة، ويدخلون من باب الزمن الجديد في علاقاتهم بالقوى الكبرى والقوى الإقليمية الأخرى، بحيث لا يسمحون بتثبيت سابقةٍ من هذا النوع، كأنها واقعٌ طبيعي، لأن ذلك سوف يقود إلى تكرارها في كل ساحةٍ بحسب الحاجة.
كما يبرز ذلك ضرورة التركيز على المشتركات مهما تباعدت الخيارات السياسية أو تقاربت وتفهم الخصوصيات الوطنية لكلٍ دولة، ذلك أن الضرورات الاستراتيجية شبه متطابقة بين دول المنطقة، وكذلك الأبعاد الثقافية والمزاج الشعبي. كما يقود ذلك إلى ضرورة العمل حيث أساس المشكلة في المسألة اليهودية لدى الغرب، للقول إن الصراع هنا ليس حضارياً مع اليهود والغرب، إنما هو صراع تحررٍ وطني بين أصحاب الأرض ومستعمريها.