جاء في “الراي الكويتية”:
على وقع «الكسوفِ» الذي أصابَ «مدينةَ الشمس» بعلبك ومحيطها بفعل دخانِ الحزام الناري الذي لفّها في يومٍ حُبستْ معه الأنفاسُ خشية سَحْقِ التاريخ السحيق الماثل فوق الأرض وتحتها في واحدةٍ من روائع الدنيا التي قد تكون «أمّ المدن في الكون»، بدت الأحداثُ المتسارعةُ والمُتِلاحقةُ التي هزّت لبنان أمس، في أكثر من منطقةٍ وكأنّها تدشينٌ لمرحلةٍ توصف بأنها الأكثر حراجة في «الحرب الثالثة» التي بدأت قبل 38 يوماً وتَشي بأن وقْفَها سيمرّ بمخاضٍ مرشّحٍ لأن يشهد استخدام كل «أسلحة الاحتياط» قبل إزالة «غبار المناورات» عن طاولة القرار 1701 وملحقاته التي تبقى الإطارَ الوحيد لتَفاوُضٍ لن يأخذ زخْمَه إلا في أعقاب الثلاثاء الرئاسي في الولايات المتحدة، إما في الأسابيع الفاصلة عن التسليم والتسلّم بين جو بايدن وخلَفه (في يناير) وإما بعد التنصيب.
ومن غاراتٍ صوّبتْ قبل الظهر على أهداف منتقاة، على طريق عاريا (الدولية بين بيروت والبقاع) حيث استُهدف فان كان ينقل ذخائر وصواريخ مضادة للدروع، وعلى سيارة في محلة القماطية (عاليه) قُتل فيه شخصان، و«رابيد» في بشامون نجا سائقه، مروراً بالإنذار المروّع وغير المسبوق الذي وجّهه الجيش الإسرائيلي لسكان مدينة بعلبك وبلداتٍ مجاورة (بمساحة 45 كيلومتراً مربعاً) بإخلائها ما تسبّب بموجة نزوح كبيرة نحو شمال لبنان وحال هلعٍ قبل أن تبدأ بعد الظهر استهدافاتٌ وحشيةٌ احتلّت مَشاهدُها الشاشات، وصولاً إلى استمرارِ عمليات المسح المتسلسلة لقرى على الحافة الأمامية توغَّل فيها الجيشُ الاسرائيلي… مثلّث رعبٍ أضيف إلى «الكابوس» الذي يُطْبِق على «بلاد الأرز» منذ 23 سبتمبر خصوصاً واحتجبتْ خلف وقائعه المخيفة كل مساراتِ السعي لاستيلاد وقف للنار ما زال أشبه بـ «إبرة» يتمّ البحث عنها في كومة حُطام من دم ودمار.
وحتى أول إطلالة للشيخ نعيم قاسم كأمينٍ عام لـ «حزب الله»، خَلَفاً للسيد حسن نصرالله والتي طغى على مضمونها ما بدا «إغارةً» تقنيةً عليها من اسرائيل عطّلت بثَّها لدقائق بالتوازي مع مشاكل تقنية على مختلف منصات وإعلام «حزب الله»، حجبتْها التطوراتُ التي كانت تتدحْرجُ وتضاءلتْ معها أكثر الآمالُ التي كانت أصلاً شبه معدومة بأن تنجح الزيارةُ المرتقبة لمستشاريْ الرئيس الأميركي الكبيريْن آموس هوكستين وبريت ماكغورك لتل أبيب اليوم، في إرساء مَخرج للحرب يُخشى أن يكون دَخَلَ مرحلةَ الـ «غزّنة» أي استنساخ تجربة مفاوضات غزة لجهة شراء الوقت ورمي بالونات الاختبار من بنيامين نتنياهو، ريثما يمرّ استحقاق 5 نوفمبر الأميركي.
وهذا الاستحقاق الذي يَبْني على نتيجته كثيرونَ حدودَ الانتظار قبل فتْح الباب أمام حلٍّ لم تَعُد مرتكزاته سراً، وتبدأ بوقف النار وإطلاق تفاوض حول تفاهمٍ مستدام خلال فترة انتقالية (بين 21 يوماً و60 يوماً) ارتكازاً على القرار 1701 معزَّزاً بآلياتٍ لا تخلو من رفْع سقوفٍ (على غرار «الطرح المستحيل» بالسماح للجيش الاسرائيلي بالمشاركة التنفيذية في «ضمان عدم إعادة حزب الله تسليح نفسه»)، اعتبره قاسم ايضاً «مفصلاً وأحد عوامل التأثير» في أمد الحرب، إلى جانب «خسائر الجيش الإسرائيلي في الميدان»، مؤكداً «الحزب مستعد لفترة طويلة من الصبر، وقادرون على الاستمرار لأيام وأسابيع وأشهر ولن أقول أكثر» في المعركة التي أطلق عليها اسم «أولي البأس».
وإذ أكد الاستمرارَ «في تنفيذ خطة الحرب التي وضعها السيد نصرالله»، أكد أن كل الحراك السياسي الذي يحصل «هو طحن، وكركعة بلا نتيجة، ولم يُطرح مشروعٌ يوافق عليه العدو ويكون قابلاً لأن نناقشه (…) وإذا قرر الإسرائيلي أنه يريد أن يوقف العدوان فالحزب يوافق لكن بالشروط التي يراها مناسبة، ولن نستجدي وقف النار، بل مستمرون مهما طال الزمن، وأي حل سياسي يحصل بالتفاوض غير المباشر ودعامته الأولى وقف النار»، مكرراً تفويض الرئيس نبيه بري بهذا المسار.
وإذ لم يتطرق الى مسألة ربط الجبهات بين لبنان وغزة، مكتفياً بالإشارة الى ان «مساندة غزة كانت واجبة علينا (…) وتوفّقْنا بالدخول في جبهة المساندة لغزة»، شدد على أن الحزب يوجع أيضاً إسرائيل، لافتاً إلى «ان المقاومة نجحت في إرسال مسيّرة إلى غرفة نوم نتنياهو وهو مرعوب» (ميت رعبة)، ومشيراً إلى أنه «زمط» لكن «من الممكن أن يُقتل على يد أحد الإسرائيليين وربما في احتفال».
وفي الوقت نفسه الذي كان قاسم يتحدّث في كلمته المسجّلة (وهي الرابعة له منذ اغتيال نصرالله)، بدأت اسرائيل هجومَها الجوي الموسّع على بعلبك وبلدات محيطة، وسط مَخاوف مما قد ترتكبه آلة الدمار الشامل بحق مدينة الخمسة آلاف سنة التي تشتهر بالآثار الرومانية الرائعة وقلعتها ومعابدها المدرجة ضمن قائمة اليونسكو للتراث العالمي كواحدة من أبرز المعالم الأثرية في المنطقة والتي حيكت الأساطير حول طريقة بنائها.
ومنذ أن قرع افيخاي ادرعي «النفيرَ» عبر منصة «أكس» متوجّهاً إلى أهالي بعلبك وعين بورضاي ودورس بوجوب إخلاء منازلهم فوراً محدّداً لهم 3 محاور للانتقال خارج المدينة والقرى، ارتسمتْ ملامح جولةٍ يُخشى أن تكون الأكثر ضراوة في المواجهة المفتوحة، والتي كانت وضعت مدينة صور التاريخية أيضاً في دائرة النار، وسط اقتناعٍ بأن تل ابيب تعمّدت نقل «الفوهات» إلى معقل «حزب الله» و«مكان ميلاده» بعلبك، التي تحوّلت (مع الهرمل) منذ تأسيسه قبل نحو 42 عاماً «جمهوريته» وخزاناً رئيسياً (للسلاح والمقاتلين ومعسكرات التدريب) وخصوصاً نظراً إلى موقعها كحلقةٍ رئيسية تربط «قوس النفوذ الإيراني» ووصوله الى لبنان (والمتوسط) عبر العراق ثم سورية المتاخمة.
«خزان إستراتيجي»
ولم يكن عابراً ان تكون «الطلقة الأولى» من الجو ضدّ خزانات وقود في سهل دورس رُجّح أنها «خزان استراتيجي» لـ «حزب الله»، وتسبّبت بحريق عملاقٍ «احتلّ» سماء المنطقة وعموم قضاء بعلبك بغيمة سوداء، كادت أن تغطّي على الغارات التي لحقتْها في قلب المدينة التي واجهتْ وكأنها «عزلاء» طائرات مفترسة أرادت قطع أوصالها وعزْلها عن محيطها.
نزوح جماعي
وسبق بدءُ «عاصفة النار» مغادرة عشرات الآلاف المنطقة، وسط حال هلع وتوجيه نداءات عبر المساجد والكنائس وفرق الدفاع المدني لإخلاء المدينة، مع تحوّل منطقة دير الاحمر محطة أساسية للهاربين من الموت. وشهدت ايضاً طريق اللبوة- عرسال حركة ازدحام لسيارات النازحين نحو بلدة عرسال التي فيها عدة مراكز إيواء.
وتوجه محافظ بعلبك الهرمل بشير خضر إلى أهالي مدينة بعلبك ومحيطها، بعد الإنذارات الإسرائيلة: «أرجو منكم التوجه الى إحدى الوجهتين: عرسال، أو الى محافظة الشمال عن طريق عيناتا-الأرز، الرجاء عدم التوجه الى القلعة لأنها ليست آمنة»، ومتحدّثاً عن «حال هلع حالياً في صفوف السكان»، وأضاف: «نخشى أن نكون أمام مشهد تدميري كبير قد تقوم به إسرائيل».