صالون الست خيرات



جوزف القصيفي نقيب محرري الصحافة

ومثلما يعيد المساء الجميع إلى البيت- على ما تقول مي زياده- أعادت خيرات الزين لمّ شتيت الأدباء، الشعراء، الفنانين، الصحافيين، المثقفين، تحت سقف مقهى في قريطم مواجه لقصر الحريري، زيّنته بلوحات من رسمها، ونثرت على رفوف جدرانه عشرات الكتب، وتوزعت في أرجائه طاولات وكراسٍ تراثية، وبعض هذه الطاولات هي عبارة عن لوحات تتكئ على أقدام خشبية.

هل هذا المقهى هو صالون ادبي، مكتبة عامة، صالة عرض للرسوم التشكيلية، أو مكان لتمضية الوقت هرباً من تنين الفراغ.

في الواقع، انّه يختصر في مساحته المحدودة كل ذلك. لكن مع إضافة تدلّ إلى سخاء خيرات الزين التي تحار كيف تؤمّن لكل مرتادي «زاويتها» اسباب الراحة والضيافة على انواعها. والأهم عندها، هو أن يرتاح هؤلاء إلى الملاذ الذي وفّرته لهم، على إثر «اليتم» الذي أصابهم بعد إغلاق مقاهي شارع الحمراء تباعاً: «الاكسبرس»، «الهورس شو»، «ستراند»، "لوتوكيه"، "كافيه دو باري"، «الدورادو»، ومن ثم "سيتي كافيه" و"ستارباكس" و"ليناز". فهذه المقاهي التي شكّلت عصب الحياة السياسية، الثقافية، الفنية، وصخبها، تحوّلت إلى مطاعم «فاست فود» او محلات «نوفوتيه» او بيع أحذية.

خيرات الزين مالكة بناية «الطاف» في شارع قريطم، الرسامة والكاتبة التي تشرق بلوحاتها الفنية، وقدرتها على المزاوجة بين اللون والظل، وتفرغ مخزون مخيلتها ومعاناتها في ريشة تجيد مداعبة اللوحة، تعرف كيف تخاصر الكلمات عندما تؤبجد الأزهار وتحملها على النطق، وتطرحها برفق على الطرس لتكون عروس الكتاب الذي يدكّ فارس الاسطورة أبوابها، ليختطفها إلى عالم الدهشة، كان بإمكانها أن تؤجّر هذا المكان المحاذي للرصيف او تستثمره، لكن المادة عندها لا تتقدّم على الثقافة، خصوصاً انّها، وهي الجنوبية حتى العظم، ترفض أن تئد بيروت ذاكرتها، وأن تكون شاهدة بكماء على تشتت مبدعيها.

المبدعون من شعراء، ادباء، روائيين، رسامين، نحاتين، مثقفين، صحافيين واعلاميين، يحتشدون في «مضافة» خيرات، يتبادلون آلاراء، يستعيدون الذكريات، يوردون اخباراً ووقائع طريفة حصلت معهم، يتجادلون احياناً، بصخب تغيب عنه الضغينة، في السياسة، ويتحسرون على زمن مضى لن يتكرّر.

إختصرت خيرات كل مقاهي شارع الحمراء، والشوارع المتفرّعة، في مقهاها العفوي الأنيق الخالي من الندل، والذي لا يكلّفك الدخول اليه سوى كلمة: صباح الخير، مرحبا، أو مساء الخير، والباقي دعه على «الست خيرات» التي تسعد بالوجوه الأليفة التي تحتضنها بحب وكرم.

والعجب كيف أنّ الإعلام لم يتوقف عند المقهى الذي أصبح محطة ثقافية نادرة في العاصمة، وبارزة على امتداد لبنان ويضيء عليه منصفاً. وإذا كان لا بدّ من تسمية تُطلق على هذا المقهى، فلست أجد افضل من «صالون الست خيرات»، لأنّه يذكّرنا بالكثير من الصالونات التي ذاع صيتها في نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين في القاهرة وبيروت، وكان لها الدور الكبير في إطلاق النهضة العربية على مختلف المستويات، وفي كل المجالات.

...كما يعيد المساء الجميع إلى البيت، أعادت خيرات الزين الجميع إلى ملكوت الدفء الذي وفّرته مساحة اللقاء في الزاوية البيروتية الحميمة التي تلجها من دون استئذان، أو طلب المفتاح من «عبّ» خيرات، بل قلبها الذي يتسع لكل من عاد ليستظل سقف هذا البيت.