كتبت الراي الكويتية
ساهم إرجاءُ الاجتماعِ النيابي الذي كان يُفترض أن يُعقد في بكركي (مقر الكنيسة المارونية) في تحييد النقاشَ الحقيقي في بيروت من ملف الرئاسة إلى قضية العلاقات المسيحية الداخلية، ووَضَع الرئاسةَ في خانة التجاذب بين القوى المسيحية والكنيسة.
وفي موازاة الاعتبارات المتعددة البُعد التي أدت لإرجاء هذا اللقاء، فإن ذلك قد يكون نقطةً تُسجل لمصلحة الذين يعارضون اجتماعاً مسيحياً خالصاً في بكركي، خشية تصوير الخلاف مسيحياً، فيما الصراع حول الرئاسة هو بين المعارضة و«حزب الله» وحلفائه في قوى الثامن من مارس.
ومنذ أن انطلقتْ مساعي جمْع النواب المسيحيين في بكركي، استُحضر الدور المؤثّر الذي لطالما لعبتْه الكنيسة في موضوع رئاسة الجمهورية حيث ظلت منحازةً إلى تأكيد مرجعية الرئاسة من دون الدخول في تفاصيل هذا الاستحقاق.
حتى في تاريخها الحديث، بقي هذا المبدأ أقوى من أي ابتزازٍ سياسي يمارسه أي طرف على بكركي. وإذا كانت مارونيةُ الموقع تفرض على الكنيسة التعامل مع كرسي الرئاسة من زاويةٍ مارونية، إلا أن ذلك لم يحصل وبقيت بكركي تتعامل مع الحدَث على أنه وطني شامل، ويعني كل الطوائف والمرجعيات السياسية، مكرّرة مواقف مبدئية رافضةً لتعطيل الانتخابات ومصرّة على إجرائها ارتكازاً على مبادىء وطنية في الحفاظ على استقلال لبنان وسيادته وحريته.
قبل أن ينتهي عهد الرئيس ميشال عون (1 نوفمبر الماضي) حرصت البطريركية المارونية على المطالبة بضرورة إجراء الانتخابات في موعدها، داعيةً إلى حواراتٍ من أجل الاتفاق على رئيسٍ جديد للجمهورية. وما أن طُوي العهد من دون انتخاب خليفةٍ لعون، حتى رَفعت من مستوى دورها كونها مرجعية وطنية، والمرجعية المارونية الأولى دينياً، ساعيةً إلى تذليل العقبات في وجه الاستحقاق.
كان البطريرك مار بشارة بطرس الراعي بعد انتخابه بطريركاً، هو مَن قام برعاية اللقاء الرباعي للقيادات المارونية الذي أسفر عن فكرة الرئيس القوي والأكثر تمثيلاً، وتُرجم لاحقاً من خلال اتفاق معراب والإتيان بعون رئيساً للجمهورية. في 31 اكتوبر 2016.
ومنذ أن انطلقت فكرة الحوارات حول ملف الرئاسة في الأسابيع الماضية، والعينُ مصوَّبةٌ على بكركي لاستخلاص ما يمكن أن تفعله في هذا الاستحقاق بما يتخطى الحضّ الأسبوعي في عظات الراعي على انتخاب رئيس.
بدأ الراعي حركة أولية باستقبال رئيس «التيار الوطني الحر» النائب جبران باسيل ورئيس تيار «المردة» الوزير السابق سليمان فرنجيه. لكن سبقتْ ذلك زيارة باسيل لبكركي خلال قيامه بجولات داخلية لإطلاق فكرة الحوار للاتفاق على اسمٍ الرئيس العتيد.
كان باسيل ميالاً منذ اللحظة الأولى الى دورٍ للكنيسة المارونية وتحفيزها من أجل تكرار تجربة اللقاء الرباعي. ولم يكن تيار «المردة» بعيداً عن القبول بهذا الحوار برعاية بكركي، لكن لفرنجية وباسيل أهدافاً مختلفة، من خلال اللقاء، لأن رئيس «التيار الحر» ينطلق من رفضه زعيم «المردة»، والأخير من حيازته كمرشحٍ مفترَض للرئيس نبيه بري و«حزب الله» من بوانتاج أصوات يُعتدّ به، وإن لم يصل بعد إلى 65 نائباً (الأكثرية المطلوبة لانتخاب رئيس في الدورة الثانية وما بعد).
ورغم أن باسيل لم يعلن ترشيحه بعد بل لوّح به في ما بدا إشارةَ استدراجِ عروضٍ لحزب الله، إلا انه كان يريد من الاجتماع تأمين غطاء مسيحي لحركته الحوارية.
في هذا الوقت كانت بكركي تفتح أبوابها لكثر من مقترحي الأفكار والمبادرات، من أجل الخروج بأي اقتراحٍ عملاني لتنشيط الحوار الرئاسي. وعلى هذا الأساس جرى طرْح فكرة لقاء حوار موسّع للنواب المسيحيين في مقر الكنيسة المارونية، من أجل وضع صيغةِ حلٍّ للرئاسة. ولذا طرح الراعي عقْد اجتماع للبطاركة الكاثوليك والارثوذكس ليحصل منهم على تكليفٍ للقيام بالمبادرة النيابية.
وأول ما طُرحت الفكرة، أعيد التذكير بما حصل عام 1988 حين دعا البطريرك الراحل مار نصرالله بطرس صفير إلى عقد اجتماعات نيابية في بكركي لمواكبة مرحلةٍ سبقت انتهاء عهد الرئيس أمين الجميل. وعُقدت حينها سلسلة لقاءات للنواب المسيحيين، تزامنتْ مع طلب أميركي من الكنيسة تقديم لائحة أسماء بمرشحين مقبولين للرئاسة. وتميّزت تلك المرحلة بموقف صريح لصفير رافضاً أي اتفاق بين واشنطن وسورية على تسمية رئيسٍ للجمهورية موال لدمشق. لكنه اضطر إلى وضْع لائحة بأسماء مرشحين، كما فعل لاحقاً عام 2007 بطلب فرنسي. وفي كلا الحالتين لم يؤخذ باللائحة ودَخَلَ لبنان في أزمة رئاسية مفتوحة. وميزة تلك الاجتماعات انها كانت مفتوحة لاتجاهات نيابية متنوعة، وواكبتْ مرحلة انتهاء عهد الجميل بكل تفاصيلها وزيارته الأخيرة لدمشق، كما أسست لمرحلة اتفاق الطائف ودور بكركي – بمعية النواب المنتخَبين في مجلس عام 1972 – في التوصل اليه.
لا يمكن استنساخُ تجربة اجتماعات صفير مع النواب آنذاك، بعقد اجتماعاتٍ نيابية في بكركي اليوم من أجل الاتفاق على رئيس جديد. فالظروف مختلفة تماماً واللاعبون كذلك، سواء المحليون أو الخارجيون. فحالياً يقف حزب الله وحلفاؤه في منطقة رافضة لأي مرشح «يطعن المقاومة في ظهرها» بحسب تعابير نواب الحزب ومسؤوليه. وهذا يعني أن الحزب سبق أن حدّد مرشحه ولو أنه يدعو إلى التوافق حول مَن يريده. في المقابل فإن الحزبَ وَضَعَ خلال زيارة وفد منه إلى بكركي ملف الرئاسة في يد الراعي، بمعنى اتفاق المسيحيين على مرشح واحد. وهذا لا يمكن أن يتأمن في الوقت الراهن و«حزب الله» يعرف ذلك تماماً.
من هنا كانت خشيةُ حزب «القوات اللبنانية» الذي زار وفدٌ منه البطريرك الراعي من عقد لقاء نيابي موسّع في بكركي لا يصل إلى أي نتيجة، ما سيعني عملياً أن المسيحيين لم يتمكنوا من التوافق على مرشح واحد، وفي هذا تحميل للكنيسة مسؤولية الفشل، وإسقاط التهم عن الأطراف الآخرين. إذ يريد فرنجيه من لقاء بكركي التوافق عليه، ويريد باسيل منه تأمين غطاء مسيحي لحركته الحوارية وضمان رفض فرنجية، بحضور «القوات» و«الكتائب» اللذين يمانعان انتخاب زعيم «المردة».
ولذا صار الاجتماع محكوماً مسبقاً بالفشل، لأن «القوات» و«الكتائب» لم يتخليا بعد عن مرشحهما النائب ميشال معوض، و«القوات» كانت صريحةً في إعلان موقفها من أن اجتماعاً بلا آلية يعني الفشل حُكْماً، والآلية التي تطرحها بالالتزام بما تقرّره الأكثرية في اللقاء، لا يلقى قبولاً من فرنجية أو باسيل اللذين يعتبران أن معوض سينال أكثرية الأصوات المسيحية ويفضّلان في صورة واضحة عقد لقاء رباعي.
في المحصلة لم يُعقد اللقاء النيابي ولم يُحدَّد موعد آخَر له بعد، وسط تَبايُن الآراء بين القيادات المسيحية الأربع، وهي التي تمثّل الكتل النيابية التي يدعو الراعي الى اجتماعها في بكركي، مع بعض المستقلّين، ما يعيد الحوار المسيحي إلى المربّع الأول: لا اتفاق مسيحياً على عقْد حواراتٍ داخلية، ولا الكنيسة المارونية قادرة على خرْق المواقف المعلَنة من القيادات الأربع.