كتبت النهار
يستحيل بالحسابات الاستراتيجية البعيدة المدى، تجاهل توقعات دراماتيكية تتصل باهتزاز النظام الإيراني الذي يخوض حمامات دماء قاتلة في مواجهة إحدى أكبر وأخطر الثورات الشعبية التي تفجّرت ضد نظام الملالي القمعي منذ أكثر من ثلاثة أشهر وتنذر بمزيد من التفجر والتداعيات. قد يثير ذلك التساؤل عن الصلة بين الضعف التدريجي الذي يصيب هذا النظام والأوضاع السياسية التي تسود البلدان التي يدأب رأس النظام علي خامنئي على التباهي بأنه يخترقها بنفوذه وأولها لبنان. والحال أن إمعان خامنئي في تحريض قوات "الباسيج" على مزيد من القمع وحمامات الدماء لا يعكس إلا حقيقة واحدة هي استشعار النظام أن ما بعد التفجر المخيف الآن في بلده لن يكون كما قبله في أحسن أحلامه. لذا سيستحيل على عاقل ألا يربط "المخطط" الذي يجري تنفيذه في لبنان بالتسميم المتدرّج والبطيء للديموقراطية اللبنانية بما يزعم خامنئي أنه مواجهة مع المخطط الأميركي لإضعاف نفوذ إيران الاستراتيجي في "محور الممانعة"، وعبثٌ إلهاء اللبنانيين عن هذا الهدف الذي ليس ابن ساعته بل هو صنيعة تراكم مزمن وبلغ اليوم قمّة الفصل الحاسم بين نجاحه وفشله.
باختصار، ثمة حسابات كبرى استراتيجية تنطق بخلاصات منطقية لا قدرة لأحد على دحضها في مشهد ربط أزمة الفراغ الرئاسي في لبنان بأهداف معروفة وخفيّة للدول التي يرتبط بها فريق 8 آذار بدفع وتخطيط من قاطرته "حزب الله" وأبرزها وأخطرها احتساب أن الاستقواء الآن بإيران لفرض أمر واقع نهائي لمصلحة هذا الفريق قد يشكل الفرصة المتاحة الأخيرة أمام القوى المرتبطة بمحور طهران – دمشق وهي فرصة لن تكون قابلة للتكرار بعد ست سنوات.
لا يمكن الافتراض لوهلة أن المكابرة الدعائية والاستقواء لدى فريق يستسهل تعطيل الديموقراطية اللبنانية بشتى الوسائل، ويكرّر التعطيل مستفيداً من خلل كبير في الواقع الداخلي، يجعل هذا الفريق أعمى البصر والبصيرة الى حدود لا يرى ضمناً عبرها أن النظام الإيراني، سنده الإقليمي ومسبّب وجوده وقوّته، آيل تدريجاً الى التهاوي من الداخل ولو بعد سنوات. هذه المكابرة يعبّر عنها اندفاع بالغ الخطورة الى فرض "الرئيس المقاوم" بلا رتوش ولا مداهنة ولا مسايرة، حتى إن هذا الفريق وعلى رأسه "حزب الله"، بات يلهج علناً بأن لا "خطة باء" لديه في فرض "مرشّح المقاومة".
لعله ليس مغالاةً إطلاقاً أن تكون جولة الصراع الحالية على رئاسة الجمهورية وانتخاب الرئيس الرابع عشر للبنان أخطر وآخر الجولات في حسم مصير ديموقراطية تصارع البقاء على آخر أشلاء النظام الدستوري. فإن تنتصر قوى الارتباط بإيران ودمشق مجدّداً في فرض الرئيس الذي تريده بعد تعطيل مديد يكرّر تجربة فرض الرئيس السابق ميشال عون بقوة الزمن التعطيلي، فهذا سيكون المقتل النهائي للديموقراطية اللبنانية بلا زيادة أو نقصان. أخرج فريق 8 آذار المعركة الرئاسية من حيّز الدستورية الديموقراطية يوم قرّر استباحة لبنان لحقبة تعطيل جديدة خدمةً لأهداف الدول التي يرتبط بها وتحديداً إيران. هذه المعركة لم تعد تقتصر على اسم أو صفة أو شخص بعينه بل هي معركة "قاتل أو مقتول" في مصير النظام والجمهورية والديموقراطية اللبنانية بالعوامل والوقائع "المتواضعة" الباقية منها. يتعيّن على كثيرين من هؤلاء الذين يلهون مترفين كل خميس أن "يترصنوا" قليلاً.. ما يجري أخطر ممّا يطاله نضجكم المتأخر!