كتبت النهار
لعل أغرب الوقائع التي أعقبت إجراء الانتخابات النيابية في لبنان، التي كان يُفترض أن تشكل انطلاقة حقبة تغييرية واسعة مع إحداثها خرقاً جوهرياً بتبديل الأكثرية السابقة لمصلحة أكثرية سيادية – تغييرية، أن الاستحقاقات السياسية والدستورية اللاحقة بدأت ترسم معالم معارك فارغة من أي محتوى إلا العد الرقمي التافه. هذا الحاصل منذ انتخابات رئاسة مجلس النواب وصولاً الى استحقاق التكليف البارحة يكاد يكون أشبه بوجبات "الدايت" أو "الكوسى المسلوقة" ولا يتصل إطلاقاً بأي معارك جدّية تؤسّس لتغيير في مستوى الكارثة المتدحرجة الآخذة بالتضخم. ليس ثمة مفارقة أشد سخرية من مشهد الكتل والنواب المتقاطرين الى قصر بعبدا، في طقوس مملة رتيبة عبر الإعلام التلفزيوني، فيما تجري مثلاً في خلفية الدولة العميقة مطاردات لم تعرف دولة في العالم ظاهرة مماثلة لها بين السلطة الرئاسية وحاكم المصرف المركزي! نتساءل في يوم التكليف الذي كان مجوفاً من أي بعد سياسي ثقيل وتحوّل الى مجرد طقوس لتزكية الرئيس ميقاتي بأكثرية ضئيلة، أيّ ثقل بقي لهذا الاستحقاق فيما السلطة العميقة السياسية والسلطة العميقة المالية تخوضان أشرس المعارك المباشرة وكل "الاستبليشمنت" النيابي والوزاري والسياسي يلوذ بالتجاهل ويلهو بترقيم الوافدين الى بعبدا وأين تذهب أوراقهم وأصواتهم في واقعة حسمت قبل اليوم الأغرّ؟
بذلك قد يكون أفضل ما قدّمه يوم الاستشارات، في خلفية كونه يوماً منزوع المعارك الجوهرية ومجرّد عداد رقمي، أن يطلق على الغارب نفير الخطر الأكبر من ضرورة "إشعال" الاستعدادات بكل معايير الاستنفار المعنوي والنفسي لدى اللبنانيين حيال الاستحقاق الأكبر، أي معركة انتخابات رئاسة الجمهورية التي إن حلّ موعدها الوشيك والواقع النيابي والسياسي على هذه الوتيرة فلا أحد يمكنه أن يتصوّر مدى الخطورة الكامنة في تمرير ما لن يكون لمصلحة أي تغيير، هذا إذا حصلت الانتخابات ولم يُضرب البلد مجدّداً في مقتل الفراغ.
من غير المعقول تصوّر الوصول الى الاستحقاق الرئاسي وسط وتيرة الفوضى العارمة والتفلت المخيف من كل الأصول القضائية والقانونية ووسط معارك تصفية الحسابات الجارية كأننا في قلب جمهوريات الموز فيما بالكاد مر شهر ونصف الشهر على "تجديد" الهيكل التشريعي والتمثيلي في الانتخابات النيابية الأخيرة. هذا الاغتيال المنظم المتدحرج لنتائج الانتخابات سيمضي قدماً بخطورة عالية متفاقمة وصولاً الى فرض أمر آخر أشدّ مضاضة وأخطر إفادة وتوظيفاً لكل نقاط الضعف المكشوفة والمستورة والضمنية لقوى الأكثرية الجديدة ما دامت كل التجارب التي أعقبت انتخابات 15 أيار أثبتت أن بعض الجهات في هذه الأكثرية ليست في مستوى الخطورة التي يواجهها البلد وأسقطت الرهان بسرعة على إمكان استدراكها أخطاءً لم تعد تكتيكية بل غدت من النوع القاتل لفداحة تداعياتها على التوازن الذي يبقى مختلاً لمصلحة المحور السلطوي القائم حتى نهاية العهد.
ولعلنا لسنا في حاجة الى عناء الشرح والاستفاضة بأن اللبنانيين لن يسهروا الليالي ولن يزيدوا عتمة الإدمان على العتم بترقب حكومة جديدة يمكن أن تشكل ويمكن أن تبقى قيد الاستيلاد حتى نهاية العهد ما داموا لا يفرّقون بين حكومة فعّالة كاملة المواصفات والصلاحيات وحكومة مستقيلة لتصريف الأعمال الطويل. فأنت في جمهورية تصريف الأعمال منذ سنين "وما خوفك من البلل" إن زاد أو نقص أشهراً. لبنان إذن أمام ما صار يحترفه: ترقب الأسوأ... أو أقنعونا بالعكس!