كتبت الراي الكويتية
لم يَعُدْ من كلام في لبنان سوى الاستعداد للانتخابات النيابية، بعدما اقتنعتْ كل القوى السياسية بأن تأجيل الانتخابات بات شبه مستحيل.
ومع بدء العد العكسي لموعد 15 مايو، يطلّ لبنان على مجموعة من العوامل المؤثّرة التي فرزت نفسها قبل 13 يوماً من الموعد المنتظر، بين التشرذم السياسي والصدامات وشد العصب الطائفي أحياناً والسياسي أحياناً أخرى. فكيف تبدو الساحة الانتخابية في الأيام الـ 14 الأخيرة قبل فتْح صناديق الاقتراع للمقيمين في «بلاد الأرز»؟
أولاً بدأت الجهات الاوروبية المعنية بمراقبة الانتخابات تحْضر بقوة في الدوائر المعنية، وكذلك تفعل الجهات الديبلوماسية الغربية والاقليمية. وهذا الحضور يتعدى التشديد كما جرى منذ أشهر على موعد الانتخابات، ليتعلق ايضاً بمراقبة كل آليات التحضير للانتخابات والتحذير من المساس بديموقراطيتها ورصْد الشوائب فيها، كما حصل مع اقتراع المغتربين.
وحتى الآن لا يزال اقتراع المغتربين، ورغم تطيير جلسة مساءلة وزير الخارجية وطلب سحب الثقة منه، موضع مراقبة أوروبية وأميركية فاعلة يضاف إليها تشديدٌ ديبلوماسي على أمرين: السيطرة على العثرات التقنية وتأمين الموارد المالية، وفرض الأمن لتحقيق انتخابات من دون عوائق أمنية.
ثانياً كل من الدوائر الخمسة عشر تحمل دلالات للمعارك التي ستخاض فيها وعليها. وحتى تلك التي تضمن فيها أحزابٌ كالثنائي الشيعي «حزب الله» وحركة «أمل» مقاعدها، ستكون ساحة تجاذب حاد، حيث يحاول المعارضون الشيعة تحقيق أرقام لها دلالاتها وإن لم يحققوا فوزاً.
وتنطلق خصوصية معارك انتخابات 15 مايو من أنها لن تقتصر على القوى التقليدية، بعدما فُتح المجال بعد 17 اكتوبر 2019 لوجوه من الثورة ومن المعارضة المستقلة والمجتمع المدني للبروز على الساحة. وهؤلاء اجتمعوا في لوائح غير متحالفة لكنها تستهدف الأحزاب والسلطة بالدرجة الاولى. ومن هنا ظهرت لوائح مجتمع مدني مُعارِضة أقوى من غيرها ولا سيما في دائرة الشمال الثانية، وفي الشوف وعاليه وفي المتن وفي كسروان وبيروت الاولى. وقد حملت هذه المعارضة وجوهاً سياسية وإعلامية وشخصيات عاملة في المجالات البيئية والحيوية، ومن المفترض ان تكون مؤثرة في القاعدة المتفلتة من تأثيرات الاحزاب. إضافة الى وجود عنصر نسائي فاعل في لوائح المرشحين والمرشحات، على عكس ما قامت به الأحزاب التقليدية.
ثالثاً من ضمن فريق الثامن من مارس، يسعى حزب الله والتيار الوطني الحر الى شدّ العصَب في أسلوبٍ يشبه الذي اعتُمد في انتخابات عام 2009، لضمان فوز قوى 8 مارس
ويحاول حزب الله، المتأكد من الفوز بمقاعده، منْع أي ملامح خارجة عن سياق الثنائي في الساحة الشيعية، أي قطْع الطريق على تحقيق المعارضة الشيعية أي أرقام تُذكر. وفي سعيه إلى ضمان فوز فريقه ولا سيما التيار الوطني الحر ظهرتْ حملتُه الأخيرة التي استهدفت «القوات اللبنانية» في دائرة البقاع الهرمل، على أنها كذلك محاولةٌ واضحة لفرض إيقاعه في التأثير في الساحة الشيعية المعارضة والمستقلة، وفي تطويق القوات، في شكل مُخالِف لانتخابات الدورة الاخيرة، وذلك كرمى للتيار.
وعَكَسَ اللقاء الذي جَمَعَ رئيسيْ التيار الوطني الحر والمردة جبران باسيل وسليمان فرنجية، إصرار الحزب على تخفيف كل الأثقال التي يمكن أن تواجه التيار و«أولوية» تصويب المعركة ضدّ «القوات».
وإذ تشير الأرقام التي نتجت عن انتخابات عام 2018 إلى أن من الصعب على التيار الوطني تحقيق الفوز في دوائر الشمال الثالثة وزحلة وكسروان والمتن وبعبدا وجزين من دون الصوت الشيعي وحلفائه، فإن التيار يسعى في موازاة ذلك إلى استنفار كل أجهزته الاعلامية والسياسية بحملات منظّمة وبرامج دعائية عن الانجازات التي حققها ولا سيما رئيسه، من أجل الظهور بمظهر القوة في معركةٍ استنفر فيها كل العصبيات، وسعى الى تأكيد حضوره حتى الجسدي في الجولات والمهرجانات التي يقوم بها بهدف تشجيع الناخب العوني.
لكن النتائج لاحقاً ستُظْهِر مدى تجاوب حلفاء حزب الله من حركة «أمل» و السوري القومي الاجتماعي الى «المردة» والنائب طلال ارسلان لجهة إعطاء التيار الوطني ما يحتاجه من أصوات، ولا سيما أن التيار يروّج أنه سيحقق فوزاً صافياً بعشرين مقعداً.
ومن بين فريق 8 مارس تَظْهر حركة «أمل» الأقلّ حركة في المشهد الانتخابي، وهذا مردّه إلى عنصري الاطمئنان من جهة، وكي تظل مساحات الحوار المشتركة قائمة مع القوى الأخرى ولا سيما الحزب التقدمي الاشتراكي (بزعامة وليد جنبلاط) والقوات اللبنانية.
رابعاً، حين قرر زعيم «تيار المستقبل» الرئيس سعد الحريري تعليق العمل السياسي والانتخابي، خُيِّل لحلفائه وخصومه أن السنّة في لبنان طووا صفحة الانتخابات النيابية. لكن الاستحقاق الحالي مرشّح كي يناقض كلياً فكرة مقاطعة سنية، لا بل ان العصَب السني عاد ليشتد في وسط المعارضة، والرهان انه قد يشكل مفاجاة انتخابية
يعيش السنّة واقع الاختلاف بين الذين أيّدوا المشاركة في الانتخابات وعلى رأسهم الرئيس فؤاد السنيورة والوزير السابق اشرف ريفي والنائب السابق مصطفى علوش، والمقاطعين الذين أيّدوا موقف تيار المستقبل، إلى جانب إعادة الحضور السعودي الى لبنان، فيما حاول فريق الثامن من مارس شد عصب الفريق السني المحسوب عليه في عدد من مناطق نفوذه.
ومع اقتراب موعد المعركة ظَهَرَ الاستنفار السني في البقاع أكثر قوة منه في بيروت والشمال، لكن الدائرتين مرشحتان لأن يتصاعد فيهما الصوت السني بفاعلية عشية الانتخابات. رغم ان دوائر البقاع أفرزت في شكل لافت موقفها الذي تُظْهِر مؤشراته الاولى أنه سيكون بجانب قوى المعارضة من دون أي التباس. وقد بدأ استقطابُ المجموعات السنية من عشائر عربية ومجموعات سنية تصب أصواتها عادةً لتيار المستقبل.
خامساً بدأت الدوائر ذات الثقل المسيحي تعيش حالة استنفار سياسية وإعلامية شديدة، قائمة على خطاب سياسي وخدماتي وتذكير بملفات نائمة مالية واقتصادية وسياسية. ويَظهر التنافس الحاد في تَوَزُّع مراكز الأحزاب وحجز سيارات المندوبين وتأمين متطلبات يوم الاقتراع، بعدما تنافست على رفع الصورة واللافتات.
يركز المسيحون ثقلهم الانتخابي في دوائر الشمال الثانية وجبل لبنان وبيروت الاولى وجزين وزحلة. لكن هذا لا يعني أن الاحزاب الرئيسية لا تخوض المعركة في دوائر أخرى، كما تفعل القوات اللبنانية والتيار الوطني الحر لرفع عدد مقاعدها في البرلمان.
ورغم أن كل القوى والأحزاب المسيحية تخوض السباق الانتخابي، إلا أن المعركة الأكثر حساسية ستكون حتماً بين القوات والتيار. ويراهن الطرفان بقوة على استنهاض المغتربين في دوائرهما. وانتخابات المغتربين ستكون الأكثر مراقبة كونها ستجرى يوميْ الجمعة (في الدول العربية) والأحد (الدول الأخرى) المقبليْن، وأي إشكالات فيها ستكون مُناسَبة للطرفين كي يستنهضا شارعهما المحلي في وجه اللوائح المنافسة.
وقد بدأ الصراع يتخذ أشكالاً حادة في مناطق المواجهة بين «القوات» و«التيار» والتي لا تشكل الأحزاب المسيحية والشخصيات المستقلة عصباً أساسياً فيها. ويحاول مرشحو الطرفين استنهاض القاعدة المستقلة والتي لا تصوّت عادة لأي منهما.
ولكن رغم قوة الأحزاب وفاعليتها، فإن الشخصيات المسيحية المستقلة تفرض هي الأخرى إيقاعها على الحالة الانتخابية، وإن كان دورها محصوراً في دوائر محددة ولا تخوض المعركة بلوائح عامة في دوائر خارجة عن إطار حضورها السياسي