ذلك اللغز الكبير...


ذلك اللغز الكبير...
ربما كان لكل إنسان قصة واحدة، وربما كان في حياة البعض العديد من القصص، ويعد الأمير الشاعر عبدالله الفيصل واحداً من الشخصيات السياسية والأدبية التي كانت ومازالت من ضمن اهتمامات الناس لما يتمتع به من صفات مميزة، وتحفل سيرته بالكثير من القصص.
لقد تعودنا على تناول الكتابة، من قصة، قصيدة أو رواية، كما هي العادة الطريق وحيدة، ووعرة، ومليئة بالشك الذاتي وهناك كذلك من لم يفهمها. وهنا نستلهم بتجربة وخبرة من مر قبلنا.
اشترت إحدى المطابع من الروائي أونوريه دي بلزاك رواية لتطبعها على نفقتها. وطلبت من إحدى الرسامين أن يضع الرسوم اللازمة لبعض فصول الرواية. وبينما كان الرسام يطالع الرواية ليستوحي منها رسومه، إذا به يقف عند عبارة لم يفهمها، فذهب إلى بلزاك وسأله أن يشرحها له. اخذ بلزاك الرواية، وبعد ان قرأ العبارة، قال للرسّام: وأنا كذلك لم أفهمها!. فقال له الرسّام: كيف يمكن أن يكون ذلك، وانت مؤلف الرواية.
فقال بلزاك: نعم ولكنني من آن إلى آخر، أضع جملاً غير مفهومة، وهذا من اعظم أسباب شهرتي.
فقال الرسّام: اعذرني، يا سيدي، إذا كنت لم أفهم شيئاً مما قلته.
فقال بلزاك: أعلم، ياعزيزي، أن الشعب يستخف بكل شيء يفهمه حالاً، ويتوهم أن هذا السهل يقدر كل انسان أن يعمله مثله ولكنه إذا قرا لي جملة لم يفهمها يضع رأسه بين يديه وبعد أن يفتكر طويلاً يقول: إن بلزاك ارتفع الآن في سماء البلاغة حتى لم تعد تصل إليه إفهامنا.
وهنا بيت القصيد، لقد ختم الراوي بلزاك بقوله: فالسهل المفهوم هو البليغ، ولكن ذلك لا يصدقه أبناء هذا الجيل. فلكي يحترموا الرواية ويعتقدوا أنها بليغة، يجب ان يقفوا بين فصل وآخر عند بعض مقاطع لا يفهمونها. 
وفي بداية قصتنا هذه، لا أقول سراً حين أكشف لكم، وأتفكر في شخصية الأمير الشاعر عبدالله الفيصل، وأدبه، ودوره. وأنا في حال من التأمل حول هذا الفارس الذي كان من الواقع، لم نكن ندري مدى قدرها وقدّها... وسرعان ما تحوّل إلى حلم غاب بعد حضور، لكنه بقي في عقولنا وقلوبنا، التي مانزال نتلقى قصائده حتى هذه اللحظة.
وبالمناسبة، نحيي ذكرى الأمير الشاعر عبدالله الفيصل، ونلقي التحية على قامته الإنسانية والأدبية. وقد أقول فيه الكثير. لسبب ان شعر الأمير عبدالله الفيصل، هو ثورة بكل ما تحمله الكلمة من معنى، وهو ثورة في الرؤية، وثورة إبداعية، وثورة في التناول، وثورة في النتاج، ولا يمكن لهذه الثورات أن تفهم إلّا إذا أدركناها عبر تقاطعين، تقاطع الشعر في حد ذاته مع الثورة، وتقاطع خطابه الشعري مع بيئته بالزمان والمكان.
كما وأن ثمة التصاق بين هذا الشاعر والثائر، ولا يمكن أن يبدع أحدهما، إلّا إذا كان ثانيهما، فكلاهما واحد، ممتزجان معاً امتزاجاً تاماً، يحملان قضية رسولية لإيصال ما يريدان أن يوصلان إلى محيطهما وكل من هم حولهما.
أن ثورة الأمير عبدالله الشعرية الإجتماعية مشروطة بواقعه، وملبية هذا الواقع في تطلّعه وتغيّره، ف كان لشعره هذا الدور الريادي، وكان له أيضاً مذاق خاص.
لو قارنا بين تطور القصة وتطور الشعر لظهر لنا بوضوح أن القصة ظلّت أكثر حفاظاً من الشعر، وانحصرت حداثتها، في إطار عدم استيعاب الكلام وجدانياً وغنائياً، وغير منطقي وحتى خارج عن المألوف. وفيه أيضاً، غموض يغرّبه عن جذوره، واغتراف نفسي لا يخلو من التصنّع والتكلّف، وإن كان له دوافعه في حياته بشكل عام.
 ففي شعر الأمير عبدالله الفيصل، المعتّق في خوابي الزمن، حب يثور على الكلام، حب يثور على الأصول، حب يثور على الجذور، وحتى في قواميس الغرام المكتوب بحبر الرجولة...
فهذا الثنائي الإنساني في القصيدة يكمّل أحدهما الآخر، ولا يستغني أحدهما عن الأخر، حيث الأمير الشاعر في بحر قصيدته، قد إصطاد لؤلؤته المنشودة، انطلاقاً من مبدأ، إن دل على شيء، إنما يدل على الأصالة والعراقة والتمسك بالنبل والأخلاق الحميدة، ومحبة الإنسان لولده، ولأخيه الإنسان، والصدق بالقلب والفكر، قولاً وعملاً، لأن الله العلي ج.ج لا يزيد في ملكه طاعة من أطاع، ولا ينقص من ملكه معصية من عصى، وإنما ألأعمال بالنيات.
أخيرا وليس آخرا، أن ثورة الشك كانت وبزغت من فكر الأمير الشاعر... مثل ذلك الطفل المستكن في رحم امه فتساعده أو تعاونه القابلة القانونية على البزوغ والإنطلاق.  
وللبقية تتمة...
حاطوم مفيد حاطوم
كاتب لبناني