أرقام صادمة عن الهجرة.. لبنان ينزف رأسماله البشري على وقع الأزمة


أسرار شبارو - الحرّة

حملت خيباتها من بلد لم يؤمّن لها ولعائلتها أي أمان واستقرار، وسافرت قبل ثلاثة أشهر إلى أميركا التي تحمل جنسيتها لبدء حياة جديدة، هي التي لم تفكر يوما بمغادرة لبنان على الرغم من كل الظروف التي مرّ بها، لكن الوضع كما قالت، تينا حلاّل، لموقع "الحرة" لم يعد يُحتَمل على كل الأصعدة.

في آخر إحصاء لـ"الدولية للمعلومات" ظهر أن عدد اللبنانيين المهاجرين والمسافرين منذ بداية العام وحتى منتصف شهر تشرين الثاني 2021، وصل إلى 77,777 فردا مقارنة بـ 17,721 فردا في عام 2020. وتبين، أيضا، أن عدد اللبنانيين الذين هاجروا وسافروا من لبنان خلال الأعوام 2018- 2021 قد وصل إلى 195,433 لبنانيا.

أسباب عدة تدفع اللبنانيين إلى مغادرة وطنهم، على رأسها تفاقم الفقر الذي وصل إلى حد هائل في غضون عام واحد. فبحسب آخر دراسة أصدرتها لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغربي آسيا "الإسكوا" أصبح "الفقر يطال 74 في المئة تقريبا من مجموع السكان.

وعند النظر لأبعاد أوسع من الدخل، كالصحة والتعليم والخدمات العامة، تصل نسبة الذين يعيشون في فقر متعدد الأبعاد إلى 82 في المئة من السكان، فيما بلغت نسبة الفقراء في العام الماضي حوالي 55 في المئة من السكان". 

وتشير "الإسكوا" إلى أن ما أدى إلى ذلك هو "الصدمات المتداخلة لسعر الصرف، الذي كان ثابتا منذ مطلع القرن، ما ولّد ضغوطا هائلة، فانخفضت قيمة العملة وارتفعت معدلات التضخم في الفترة من حزيران 2019 إلى حزيران من هذا العام بنسبة 281 في المئة، فتدنى المستوى المعيشي للسكان اللبنانيين وغير اللبنانيين، وانتشر الحرمان". وقد وصل سعر صرف الدولار الواحد إلى 25 ألف ليرة لبنانية، في حين أن الحد الأدنى للأجور بات يناهز 27 دولارا في الشهر.

توقع أرقام قياسية
وبحسب "الدولية للمعلومات" "تقف الأزمة الاقتصادية والمالية والمعيشية التي يشهدها لبنان، وراء ارتفاع أعداد المهاجرين والمسافرين بحثا عن فرصة عمل يفتقدونها في وطنهم، أو عن خدمات حياتية أساسية أصبحت شبه معدومة من الكهرباء والمياه والصحة والنظافة".

ويشرح الباحث، محمد شمس الدين، لموقع "الحرة" أنه "في عام 2019 بلغ عدد المهاجرين والمسافرين 66806، وكان يفترض أن يتجاوز مئة ألف سنة 2020، لكن إقفال مطار رفيق الحريري الدولي بسبب جائحة كورونا وإقفال مطارات معظم دول العالم وتراجع فرص العمل حدّ من الهجرة لينخفض العدد السنة الماضية إلى 17,721". 

ويضيف "هذه السنة ازدادت الأوضاع سوءا في لبنان في وقت كثرت فيه الفرص في الخارج، وحتى نهاية العام قد يتجاوز عدد المهاجرين والمسافرين مئة ألف، وهو الرقم الأكبر خلال العشر سنوات الأخيرة".

تقول مديرة المركز اللبناني لدراسات الهجرة والانتشار في جامعة سيدة اللويزة، الدكتورة غيتا حوراني، لموقع "الحرة" إن "حملة الجنسية الأجنبية هم من أوائل الذين غادروا لبنان بعد فتح المطارات التي أدت جائحة كورونا إلى إقفالها، كذلك الحال بالنسبة لمن يملكون إقامة وفيزا صالحة في وقت سمحت الدول بعودتهم وهم في الغالبية طلاب أو موظفون".

وتؤكد أنه "حتى من لم يسبق له أن هاجر، أو هاجر وعاد إلى لبنان ممن لديه كفاءات ومهارات وعثر على وظيفة في الخارج غادر وطنه، عدا عن وجود نسبة كبيرة ممن يطمحون للسفر".

ما يبحث عنه المغتربون
بعد أن كانت تينا تمتلك مطعم "سوشي" في وطنها، اضطرت إلى إغلاقه بسبب الأوضاع الاقتصادية. من هنا لم تجد، كما قالت، سوى السفر إلى أميركا التي ولدت وترعرت فيها لثلاث سنوات قبل أن تعود وعائلتها إلى لبنان وتبقى فيه حيث تزوجت وأسست أسرة.

وتشرح: "أحببت بلدي ولم أفكر لحظة أنه سيأتي اليوم الذي أقرر فيه مغادرته، حتى بعد انفجار الرابع من آب (أغسطس) 2020، لكن الظروف ساءت أكثر. من هنا توجهت وحدي إلى أميركا حيث أعمل على تأمين منزل وسيارة قبل أن يصل زوجي وأولادي الشهر القادم، على أمل أن يأتي اليوم وتتحسن فيه الأوضاع في لبنان لأعود إليه من جديد".

أكثر المهاجرين هم من الفئات الشابة، كما قال شمس الدين: "70 في المئة منهم تتراوح أعمارهم بين 25 و40 عاما، وقد خسر لبنان خلال السنوات الخمس الماضية نحو 5 في المئة من سكانه". 

لكن في مقابل هذه الأمور السلبية للهجرة، يضيف شمس الدين، "هناك جانب إيجابي يتمثل بالتحويلات المالية من قبل المغتربين إلى ربع سكان لبنان ما يخلق نوعا من الاستقرار الاقتصادي". أما أكثر ما يبحث عنه المغتربون في الخارج وفقا للدكتورة حوراني هو "الاستقرار والجنسية". 

عبد الله علي (27 عاما) واحد من الشبان الذين يطمحون للهجرة منذ سنوات، حصل على شهادة في إدارة الأعمال من دون أن يعثر على فرصة عمل لائقة، دقّ أبواب سفارات عدد من الدول الأوروبية ولم يفتح له أي منها، إلى أن حط الرحال قبل شهرين في قطر، حيث قال لموقع "الحرة": "غادرت وطني بسبب الأوضاع الاقتصادية، والمعيشية، والسياسية والأمنية الحالية، التي لا تشجع الإنسان على التطور، بل تحد أحلامنا إلى حد اقتصارها على تأمين لقمة عيشنا وفوق هذا تزداد حواجز الوصول إليها يوما بعد يوم مع تراجع فرص العمل".

خسائر لا تعوض
يخسر لبنان منذ زمن رأسماله البشري، وازداد الأمر سوءا منذ سنة 2019. فبالإضافة إلى هجرة الأدمغة، يواجه أيضا "هجرة الكفاءات حيث يفتقد أكثر فأكثر إلى الميكانيكيين والكهربائيين والسمكريين وغيرهم، كما يخسر الخريجين الجدد الذين لا يجدون فرصة عمل فيه، فيبحثون عنها في الخارج وهذا ما يؤثر على ديمغرافية البلد كونهم من العنصر الشبابي"، على حد تعبير حوراني.

في البلد الذي قصده عبد الله وجد أدنى مقومات الحياة التي يفتقدها في بلده، وقال: "يمكن للإنسان أن يعمل على تطوير ذاته من دون التفكير بانقطاع المياه والكهرباء، وفقدان المحروقات، وانفلات الوضع الأمني، وها أنا الآن أنتظر الحصول على إقامة كي أبدأ بتحقيق طموحي".

"عمليات الهجرة في لبنان مد وجزر، عندما يهدأ الوضع تنخفض أعداد المهاجرين وينحصر الأمر بمن يبحثون عن وظيفة أفضل لا سيما في الدول الخليجية وأفريقيا، وعندما تنعكس الأزمات السياسية على الوضع الاقتصادي يرتفع العدد"، قالت حوراني.

في حين اعتبر شمس الدين أن الأرقام التي توصلت إليها "الدولية للمعلومات" هي مؤشر على أن "الأوضاع أصبحت أصعب في لبنان، من هنا أي فرصة تسنح للبناني للسفر والهجرة يغتنمها، والخوف من أن يبقى الوضع بهذا التوتر والتردي ما يعني أننا سنشهد مزيدا من مغادرة اللبنانيين لوطنهم في السنتين القادمتين".

أما أكثر طلبات الهجرة، فقدمت إلى سفارات دول تفتح بابها لذلك، منها كندا، أستراليا وأميركا، وفقا لحوراني، وهناك وجهة جديدة للبنانيين هي قبرص التي استقبلتهم في حرب 1975، وتركيا وأرمينيا وجورجيا وأوروبا الشرقية وحتى الصين وسنغافورة، هذا عدا عن الهجرة غير الشرعية حيث تنشط مافيات التهريب مع كل المخاطر التي يواجهها سالكو هذا الطريق".

أصحاب القرار في لبنان "هم العلّة"، كما ترى حوراني، مشددة على أنه "إذا لم يتم وضع سياسة جيدة لإعادة المغتربين، وتنفّذ إصلاحات شاملة ويوضع الشخص المناسب في المكان المناسب لن نشهد عودتهم ولا عودة الاستثمارات إلى هذا البلد".