كان للفاتيكان ولا يزال، الدور الأكبر في تطوير العلاقة بين الأديان، وخصوصاً بين المسيحيين والمسلمين، وقد كان للفاتيكان مبادرات هامة في هذا السياق، نذكر منها الوثيقة التاريخية المشتركة بين الأزهر والفاتيكان لمحاربة التطرّف ونبذ العنف وفتح باب الحوار وتعزيز التسامح بين الأديان، بالإضافة إلى مؤتمر الأديان الذي عُقد في الإمارات العربية المتحدة بمشاركة الفاتيكان.
لكن في لبنان، يبدو أن رياح بكركي تجري بما لا تشتهي سفن الفاتيكان، فقد توقفت أوساط سياسية، عند التلازم في المضمون والتوقيت بين عظة البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي، القاسية من حيث الخطاب السياسي، وبين وصول أمين سر الفاتيكان الكاردينال بييترو بارولين إلى لبنان، للدعوة إلى التكاتف والحوار بين اللبنانيين.
ولمن فاته ما جاء في عظة البطريرك، فقد طالب الراعي ب"ضرورة انتخاب رئيس جمهورية يُعنى بتطبيق القرار 1559 ونزع السلاح، وتنفيذ القرار 1701 وتحييد لبنان، وألّا يعود لبنان منطلقاً لأعمال إرهابيّة تزعزع أمن المنطقة واستقرارها". وقد وصفت أوساط متابعة هذه العظة أنها الأقسى على الإطلاق، إذ لم يَرِد على لسان البطريرك الراعي مثل هذه المواقف سابقاً.
كلام الراعي الذي تزامن مع وصول بارولين، إستدعى ردّة فعل شيعية سريعة قضت بمقاطعة "الشيعة" للقاء الروحي الذي دعت إليه بكركي بحضور أمين سر الفاتيكان، وبذلك تكون العظة المذكورة قد ضربت العناوين التي يرفعها الفاتيكان حول العلاقة بين الأديان.
وهنا، يجدر التساؤل، ألم يدرك البطريرك الراعي أن خطابه ستكون له تداعيات على المستويين الديني والسياسي؟ ولماذا هذا التصعيد من حيث المضمون والتوقيت؟ ألم يكن من الأجدى تخفيض حدة الصراع الداخلي تمهيداً لزيارة أمين سر الفاتيكان وإنجاحها، بدل أن يصاب اللقاء الروحي بقطيعة شيعية غير مقبولة؟
وأليس من الأفضل أن تبقى بكركي في موقع التوازن على المستوى الوطني، خاصة في هذه اللحظة الحساسة التي تدور فيها حرب خطيرة في تداعياتها على المنطقة ولبنان، وأن تترك تلك المواقف المتطرّفة إلى الأحزاب السياسية، لكي تبقى صمام أمان يمكّنها من التواصل مع جميع المكوّنات الروحية والسياسية فيما لو انشطر البلد عامودياً، بدل أن تصبح محطّ مقاطعة ليس فقط من القوى السياسية، ولكن أيضاً من المرجعيات الروحية؟
إن مجازفة بكركي بموقعها الوطني الذي يعترف لها به الجميع، وتحوّلها نسخة عن القوى السياسية في طائفتها، يفقدها دوراً يتطلّع إليه المسلمون قبل المسيحيين، وهو أن تعوّض بحكمتها وواقعيتها ووزنها، خفّة وعجز القوى المسيحية الحالية لحماية البلد وإنجاز الإستحقاقات الدستورية، وعلى رأسها رئاسة الجمهورية.