تعميم جديد لمصرف لبنان ينظم التحاويل والشيكات “النقدية”: يخفف مخاطر تداول “الكاش” ويقلل كلفة الاقتصاد “النقدي”



تعددت في الآونة الأخيرة خطوات مصرف لبنان في مواجهة الأزمة النقدية وتداعيات انهيار الليرة. فبعد انتظار يائس لعودة الدولة الى ممارسة دورها الفعلي، ووظيفتها في وضع الأطر والتشريعات والقوانين اللازمة والناظمة لإعادة استنهاض الوضع الاقتصادي، بادر مصرف لبنان بحدود ما يسمح له قانون النقد والتسليف، الى اتخاذ قرارات عدة تصب في مصلحة حماية ما تبقّى من الليرة من جهة، وتعزيز قدرة الاقتصاد بما أمكن لتحريك الجمود القاتل الذي يعتريه من جهة اخرى.

آخر هذه الخطوات، تعميم جديد حمل الرقم 165 صدر بتاريخ 19 نيسان 2023 يتعلق بعمليات التسوية الإلكترونية العائدة لـ”الأموال النقدية”. فبعد التوسع بتداول الشيكات “الفريش” أو ما تُعرف به في الأسواق بـ”الشيكات النقدية” عبر المصرف الواحد، بات من الضروري والملحّ تنظيم عملها، وقوننة تبادلها عبر مصرف لبنان، خصوصا أن تنظيمها يساعد في تسهيل الكثير من العمليات التجارية، وعقود الأعمال، ويسمح بعودة السيولة الى النظام المصرفي، بما يساعده على إعادة إطلاق بعض خدماته التسليفية والاعتمادية.

هذه الخطوة بما لها وعليها، يعتبرها البعض سابقة في توقيتها، حيث الأولوية لإقرار قانون إعادة هيكلة المصارف، والكابيتال كونترول، وتحديد مصير الودائع. لكن البعض الآخر وجد فيها خطوة هجومية نحو إعادة تنظيم الحياة المالية والنقدية في البلاد، وعدم الإستسلام أمام معوقات الفراغ السياسي والحكومي. كما شجع بعض المصرفيين مصرف لبنان على الإسراع في تنظيم عمل مقاصة البطاقات النقدية، الائتمانية أو الإعتمادية، على غرار الشيكات، بهدف الإقلال من استعمال الـ”كاش” في الأسواق، ولدفع عملية تفريغ السوق من الليرة قدر الإمكان، للقبض على لجام ارتفاع #الدولار، ووقف تمدد سرطان التضخم.

مصادر متابعة فصلت مندرجات التعميم الرقم 165 الخاص بعمليات التسوية الالكترونية العائدة لـ “الاموال النقدية”، واعتبرته استثنائيا وجاء ليتماشى مع الظروف الاستثنائية التي يمر بها الاقتصاد اللبناني. ووفق التعميم يُقصد بـ”الأموال النقدية” الاموال التي حُولت من الخارج و/أو تم تلقّيها اوراقا نقدية (Banknotes) بالعملات الاجنبية بعد تاريخ 17/11/2019 والاموال المودعة أو التي ستودع اوراقا نقدية (Banknotes) في حسابات جديدة بالليرة اللبنانية.

التعميم طلب من المصارف كافة فتح حسابات جديدة بالاموال النقدية (Banknotes) بالدولار الاميركي والليرة اللبنانية لاستخدامها بشكل حصري لتسوية التحاويل المصرفية الالكترونية الخاصة بـ”الاموال النقدية” ولتسوية مقاصة الشيكات التي يتم تداولها بـ”الاموال النقدية”. ولم يلزم مصرف لبنان المصارف بأي مبلغ محدد لايداعه في هذه الحسابات النقدية الجديدة، بل ذكر التعميم حرفيا أنه “يعود لكل مصرف تحديد قيمة ايداعاته في الحسابات الجديدة شرط ان يتوافر على الدوام الرصيد اللازم لنجاح عمليات التسوية”.

وقد سمح التعميم باجراء تحاويل نقدية بطريقة الكترونية، كما سمح بتبادل شيكات صادرة عن حسابات “فريش” بالعملة اللبنانية وبالدولار الاميركي. ومن المتوقع ان يتبع ذلك اصدار بطاقات دفع مرتبطة بالحسابات النقدية، يمكن استعمالها من دون شروط أو اي عمولات اضافية لدى كل نقاط البيع في لبنان. وهذا يخفف عبء استعمال الاوراق النقدية لتسديد ثمن المشتريات وغيرها. وبالطبع ستبقى البطاقات المصرفية الحالية تعمل كالمعتاد حيث على سبيل المثال تستعمل لتسديد ثمن 50% من المشتريات لدى السوبرماركت.

وبشكل مبسّط، اصبح من لديه حساب “فريش” بالعملة اللبنانية ويرغب في التسديد النقدي، يمكنه القيام بذلك عبر التحاويل النقدية الالكترونية الفورية او عبر الشيكات المرتبطة بحساب “الفريش” وبكلفة ضئيلة جدا. وتشرح المصادر بالقول: “على سبيل المثال، يقوم عدد من المكلفين كمستوردي المحروقات والسيارات والالكترونيات وأصحاب المطاعم بتسديد الضريبة لمصلحة الخزينة بشكل نقدي، وهذا يعني نقل كميات كبيرة من الاموال النقدية بواسطة شركات نقل الاموال لايصالها الى الخزينة او الجمارك الذين عليهم عدّ هذه الاموال وتوضيبها ونقلها الى مصرف لبنان، عدا عما يترتب على هذه العمليات من كلفة ومخاطر كبيرة. أما بعد صدور هذا التعميم، فسيتمكن هؤلاء المكلفون وغيرهم من القيام بذلك من حساباتهم النقدية لدى المصارف دونما حاجة الى نقل الاموال وتسليمها نقداً للجمارك او دوائر المالية المختصة. وهذا يخفف كلفة تخزين الاموال النقدية ومخاطر نقلها والتأمين عليها. كذلك اصبح للتجار وسيلة دفع جديدة وسريعة وآمنة وبكلفة ضئيلة جدا تخوّلهم دفع متوجباتهم النقدية وتسديدها من خلال حساباتهم لدى المصارف دونما حاجة الى نقل الاموال وتسليمها نقدا. اذ ان الشيك او التحويل الصادر من حساب الفريش يمكن قبضه نقداً وفي اي وقت”.

كذلك فرض مصرف لبنان شروطا متشددة حيال المصارف التي لا تكون لديها مؤونة كافية لتسوية العمليات النقدية، اذ نص التعميم على انه “في حال عدم توافر المؤونة الكافية في هذه الحسابات لاتمام عمليات التسوية يتعرض المصرف المعني لتطبيق أحكام القانون الرقم 2/67 تاريخ 16/1/1967 اضافة الى الزامه بدفـع تعويض، بمثابة بند جزائي لا يقل عن مليار ليرة لبنانية. وفرض التعميم ايضا اضافة كلمة “Fresh” باللون الاخضر مطبوعة على الشيكات الخاصة بـ”الاموال النقدية” وذلك لتمييزها عن الشيكات الاخرى التي تبقى من دون تعديل. ويمكن للمصارف اضافة اي علامة فارقة مع حماية امنية على هذه الشيكات”.

وفي هذا السياق، كانت لافتة تغريدة المصرفي جان رياشي الذي اعتبر ان مقاصة الشيكات بالدولار أو التحويلات من خلال غرفة مقاصة محلية أو مصرف لبنان هي وصفة لتبييض الأموال كونها تسمح بالتهرب من التدقيق، بيد ان مصادر متابعة رأت أن من المعروف ان الإقتصاد النقدي و”الكاش” هو “بيئة حاضنة لتبييض الاموال، وتاليا فإن انتقال الاموال عبر القطاع المصرفي الذي لا يزال يعمل ضمن المعايير العالمية لمكافحة تبييض الاموال هو أفضل وأقل مخاطر من التداول بالنقدي”.

مصدر مصرفي أكد أن التعميم الجديد يهدف الى تنظيم الاموال الجديدة (fresh Money) التي كان يتم تبادلها خارج مصرف لبنان، لتصبح عبر مقاصة مصرف لبنان، وتاليا التخفيف من اقتصاد “الكاش”. اما الرئيس السابق للجنة الرقابة على المصارف سمير حمود فيؤكد أن هذا التعميم هو “خطوة لا بد منها، لكنه للأسف جاء قبل معالجة الاوضاع المالية والمصرفية ككل”. التعميم، وفق ما يقول “وإن كان يشي بوضع كل العمليات السابقة من عمليات مقاصة وشيكات وعمليات تحاويل داخلية بحسابات الليرة او الدولار، والاستعاضة عنها بحسابات جديدة بالعملات الاجنبية او بالليرة اللبنانية تحت مسمى “الاموال النقدية”، يبدو واضحا أنه يحاول خلق NEW GOOD BANK، واعتبار أن كل العمليات السابقة Bad bank وهذا أمر مطلوب”. ولكن كان الافضل برأيه، “أن نبدأ بشبكة دفع بالليرة وذلك بعد اعادة تكوين القطاع واستعادة ثقة الناس به، عبر فتح باب الترخيص لمصارف رقمية برأسمال بالعملة الاجنبية، ووقف المقاصة الداخلية بالعملة الاجنبية وحصر التحصيل النهائي من خلال الحسابات في الخارج، وعدم الايداع لدى مصرف لبنان بالعملة الاجنبية مع حرية مصرف لبنان في تحديد وتنظيم السيولة للمصارف بكل العملات”.

وإذ أكد حمود أن “المهم في التعميم أنه بدل التعاطي بالكاش يمكن من خلال الشيكات الدفع محليا أو خارجيا، بالحسابات الجديدة او الفريش”، قال: “لست ضد التدبير الجديد، إذ إن اي اجراء يمكن أن يسهل العمليات المالية من خلال المصارف بدل العمليات النقدية الكاش أمر مرحب به ومطلوب، ولكن المشكلة الاكبر ليست هنا، المشكلة هي في ضياع أموال الناس وادخاراتها”.
على أي حال، العمل بالتعميم سيبدأ في أول حزيران المقبل، ومن المتوقع ان يكون له تأثير ايجابي على الاقتصاد وتسهيل عمليات الدفع والتخفيف من كلفة ادارة السيولة النقدية لدى الشركات والتجار والمواطنين، لا سيما المكلفين بدفع الضرائب بشكل نقدي لمصلحة الخزينة، ولكن رغم بعض الايجابيات والمحاولات… يبقى الحل سياسياً اولاً.